الإيثار ودرجاته
قام المجتمع منذ قديم الزمان على مجموعة من الأخلاق الحسنة التي تتداولها الأجيال جيلًا بعد جيل، ومن تلك الأخلاق الطَّيبة التي يتفاخر بها النّاس على بعضهم الصدق والأمانة والابتسامة والقول الطَّيب والإيثار، وأحسن الأخلاق التي تقيم مجتمعًا متماسكًا الإيثار وهو عكس الأنانية ومعناه أن يُقدم الإنسان غيره على نفسه، وذلك بهدف نشر الخير في كلِّ مكان، وعند تقديم الآخر على الذات لا يجب أن ينتظر المرء من الذي آثره على نفسه أي معروف أو أي شكر مقابل ذلك، أمَّا لو انتظر ردة فعل فعلية أو قولية فإنَّ ذلك لا يندرج حينها تحت مسمى الإيثار بل ربما هو تبادل مصالح.
كان الإسلام من أوائل مَن شجّع على خلق الإيثار وحضَّ عليه، وجعل لفاعله عظيم الأجر والثواب وبيَّن درجات الإيثار حتى يعلم المرء أين يقف من هذا الخلق الجميل، الإيثار واحد من الأخلاق السَّامية التي تجعل من المرء حمامةً بيضاء أشبه بحمامة السلام التي تسعى بالقمح إلى غيرها وهي تتضور جوعًا لكنَّها تعلم أنَّ ذلك الخير سيعود إليها في يومٍ من الأيَّام ولربما أمطرت عليها السماء قمحًا جراء فعلها، وربما كان الإيثار أشبه بغيمة ناصعة النور والبياض تُمطر على النَّاس من المطر الطَّيب ولا تنتظر منهم جزاءً ولا شكورًا، بل هي دأبها المطر أينما كانت وكيفما حلَّت، فيستبشر النَّاس بقدومها ويحزنون لفراقها.
لو شاء المرء أن يرى الإيثار في أعلى درجاته فما عليه إلا أن ينظر إلى تلك الأم الرؤوم التي تعمد إلى صغارها فتربيهم وتؤثر راحتهم على راحتها، وتعمد إلى الحياة فتذللها لهم فلا يشعرون ببأس الدنيا وقسوتها إلا بعد أن ترحل تلك اليد التي تؤثرعلى نفسها ولو كان بها خصاصة، إنَّ الإيثار أبعد ما يكون عن المادية والأمور الحسيَّة التي لا يفهم بها سوى رجال المال الذين يحسبون الدنيا على أنَّها حفنة من الأوراق الخضراء التي ستبلى ذات يوم.
لو نظر المرء إلى الإيثار بعين المتأمل لعلم أنَّ الإيثار ليس شكلًا واحدًا ولا درجةً واحدة بل له أشكال ودرجات، وأمَّا الدرجة الأولى من درجات الإيثار فهي أن يؤثر المرء النَّاس على نفسه ولكن لا بدَّ لذلك الإيثار من أن يكون مشروطًا فلا يضر المرء نفسه فيه، إذ لو كان الإيثار يحمل مضرة للشخص كأن يطلب أحدهم من الآخر أن يقوم على تعليمه قاعدة ما، ولكن امتحان المطلوب منه هو في اليوم التَّالي ولا يملك وقتًا لتعليم أحد، فهنا يكون الأمر حماقة وليس إيثارًا؛ لأنَّه ألحق الضرر بنفسه ووقته.
أمَّا الدرجة الثانية من درجات الإيثار فهي أن يؤثر المرء رضا الله تبارك وتعالى على رضا جميع الخَلق، مثل أن يعمد الإنسان إلى فعل أمر ما ولكنَّه يُغضب النَّاس ويرضي الله، ومثال على ذلك لو أنَّ قاضيًا قد أتى إليه رجل فقير وآخر غني، واستطاع الغني بسطوته ونفوذه أن يحيز النَّاس إليه فيكونوا معه قلبًا وقالبًا، فلا بدَّ لذلك القاضي أن يحكم بالحق وأن ينصف ذلك الرجل الضعيف الذي تمسك بحبائل حقه، ولو كان ذلك يغضب النَّاس، وهذا معنى إيثار رضا الله على رضا الخَلق.
أمَّا الدرجة الثالثة من درجات الإيثار التي قد يغفل عنها كثير من النَّاس فهي أن يعدّ الإنسان أنَّ الإيثار الذي يقوم به هو من الله تعالى، فينسب الإنسان الإيثار الذي يقوم به إلى ربه وليس إلى نفسه، فالأمر كله بيد الله تعالى وليس للعبد شيء، وفضل الإيثار عظيمٌ جليل إذ إنَّه يقوي الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع، فيشعر الإنسان أنَّه في مصابه أو في أموره كلها ليس وحده، بل سيجد من يساعده ويؤثره على نفسه حسب التعاليم الإنسانية والإسلامية.
الإيثار في حياة السلف الصالح
قد يتبادر إلى ذهن بعض النَّاس سؤال لا بدَّ من الإجابة عنه ومفاد السؤال: ما هو الإيثار في الإسلام؟ والجواب أنَّ الإيثار في الإسلام يعني الأخوَّة، يعني تفضيل الغير على النَّفس بشكل لا يلحق الأذى بالذات، وهو كل سبب يعود عليك بصلاح قلبك، وقد وردت العديد من المواقف من إيثار السَّلف التي سيتضح بها المفهوم أكثر، ومن ذلك أنَّه أتى مرة رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبعث عليه الصلاة والسلام إلى نسائه يسأل ما عندهنّ من الطعام فقالوا أنَّه لا يوجد عندهنّ إلا الماء، فسأل أصحابه عمَّن يضم هذا الضيف إليه، فقال رجل من الأنصار: أنا.
ثم أخذ الرجل ذلك الضيف وعاد إلى منزله، وقال لامرأته أن تصنع الطعام فأخبرته أنَّه ليس عندها إلا قوت أطفالها، فأمرها أن تنوِم اطفالها حين نضج الطعام وعندما تضع الطعام أمام الضيف تطفئ السراج محتجةً بإصلاح، ويجلسان الرجل وامرأته على المائدة كأنما يأكلان الطعام، فأنزل الله ذكر الإيثار في القرآن الكريم عقب تلك الحادثة قائلًا: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.[١]
ذُكر كذلك قصة وردت في الأثر عن أهل السَّلف أنَّ أحدهم قدم إلى صاحبه فأخبه أنَّه لا يملك شيئًا من متاع الدنيا، فقام الآخر وعمد إلى ستة دراهم فأعطاه إياها، وقال له إن ليس عنده إلا تلك الدراهم الست، فقال الرجل: سبحان الله ليس عندك إلاها وآخذها أنا منك! فأخذ ثلاثة دراهم وترك له ثلاثة، إنَّ النَّفس التي روّضت على فعل الخير وعلمت أن جميع لذي تقدمه في هذه الدنيا سيعود لها في يوم آخر سواء جعله الله في الدّنيا أم الآخرة لن تقوى على الشح بل ولن تكون إلا كريمة.
لمَّا ترك المهاجرون أرضهم وديارهم وبيوتهم في مكة المكرمة وخرجوا إلى المدينة المنورة أقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أعظم خطوة إنسانية وسياسية ودينية وأخلاقية واقتصادية وهي المآخاة بين المهاجرين والأنصار الذين فتحوا صدورهم ومنازلهم لإخوانهم، وكان من بنود ذلك أنَّ المهاجر أخو الأنصاري يعطيه نصف ماله وأملاكه؛ حتى تقوم الدولة الإسلامية على أساس صحيح، وبذلك يربيرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه خصلة الإيثار وينميها عندهم، لتكون الأمة كلها فيما بعد منقادة إلى ذلك الخلق الذي حث عليه الله ورسوله.
من قصص إيثار الصحابة -رضوان الله عليهم- أنَّه لما طُعن عمر بن الخطاب وبدأ الموت يلف خيوطه من حوله والصحابة من حوله لو يأمرهم أن يفتتوا جمجمة من طعنه ما استكانوا، لكنَّ الموقف الآن لا يحتاج إلا أن يتفكر الإنسان في الدار التي سيؤول إليها، ففطن عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام، فطلب ممن عبد الله بن عمر أن يستأذن عائشة أن يُدفن إلى جانب النبي -عليه الصلاة والسلام-، فتقول عائشة إنّها كانت تحبه لنفسها، ولكنَّها لم ترد ابنها خائبًا وآثرته على ما كانت نفسسها تطيب وهي أن تُدفن إلى جوار زوجها ونبيها و حبيبها محمد -عليه الصلاة والسلام-.
ذكر الأقدمون حكمة عن الإيثار قالوا فيها: "ليس الجود أن تعطيني ما أنا أشدّ منك حاجة إليه،وإنّما الجود أن تعطيني ما أنت أشدّ إليه حاجة مني"، وهذا يوضّح معنى الإيثار على وجهه الصحيح الذي لا بدّ لكل مسلم من ترويض نفسه عليه.
حاجة المجتمع إلى خلق الإيثار
إنَّ المجتمع الآن في حاجة ماسة إلى خلق الإيثار بعد أن صار أنانيًّا لا يسأل إلا عن نفسه كيف يرضيها وكيف تثني عليه ذاته، لا بدَّ لذلك الشَّاب من أن يتنحى عن كرسيه في حافلة النقل حتى يجلس ذلك الرجل الذي اشتعل رأسه شيبًا، وكأنَّ ذلك البياض ما خُلق إلا ليعاتب النَّاس على جرائمهم في حق الضعاف من النَّاس، فمعنى الإيثار هو أن ينحي المرء ذاته تنحية تجعل منه إنسانًا سماويًا لا يأبه بالشهوات التي جُبل عليها، بل يروضها ويجعل منها عبدًا طائعًا عنده، نعم إنَّ فضل الإيثار عظيم فهو يقوي الروابط الاجتماعية ويزرع المحبة في نفوس النَّاس حتى يظن واحدهم أنَّه أحب إلى الآخر من نفسه.
فضل الإيثار عظيم جليل لأن الإنسان لو اكتفي بهذا الخُلق دونًا عن غيره لحُلت مشاكل المجتمع التي باتت مكدسة، فكلٌّ يريد أن يعتدي على الآخر ويسلبه ماله وممتلكاته ويحلف الأيامين المقدسة المغلّظة على ذلك، لكنّ الذي يُعمرّ الله قلبه بخلُق الإيثار لن يقدم على مثل ذلك، بل ستكون نفسه محررة من إذلال العبودية ومن قيودها وأغلالها التي شاكت أكباد النَّاس حتى تمكنت منهم.
لقراءة المزيد، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: الإيثار في الإسلام.
المراجع
- ↑ سورة الحشر، آية: 9