مفهوم السعادة
سِرُّ أسرار الحياة، وجوهرُ سعي الإنسان مهما كان شكله وعمره وتفكيره ومعتقده، منذ أن يفتح عينيه على الدُّنيا يستشعر معناها ولا يقع على اسمها، وربَّما عرف الإنسان السَّعادة قبل أن يسأل عنها ويبحث في أسبابها، بل ربَّما كان السِّر في الاهتداء إليها هو إراحة النَّفس من السَّعي الحثيث نحوها، فإنَّها رضًا يُهتدى إليه وليست غنيمةً تتحصَّل بطحن الصُّخور. وإن كان العمل يجلب السَّعادة وأخذ أسبابها يقرِّبها إلَّا أنَّ الرُّوح هي الأصل في كلِّ ذلك، فإنَّ من النَّاس من يسعى طوال حياته ولا يعرف طعم الهناء ولا يلتمس الرِّضا، ومنهم من ضاقت عليه الأسباب وعدم الوسيلة لبلوغ الغايات البعيدة إلَّا أنَّه للسَّعادة أقرب، فتلك طبائع وطرائق في التَّفكير.
الحياة تحكم الإنسان بطبعه أكثر ممّا يحكمها، فالسَّعادة والطُّمأنينة ورضا النَّفس هي أرزاقٌ من مقسِّمِ الأرزاق، يهديها إلى النَّاس أكثر ممّا يهتدون إليها بأنفسهم، فإنَّ من عرف السَّعادة في الحياة صاحب حظٍّ كبيرٍ ونعمةٍ غامرةٍ حُرِم منها كثيرون غيره، وهو بذلك أدرك كلَّ شيءٍ وإن كان ينقصه الكثير، وأمَّا من افتقد هذه النِّعمة فقد افتقد كلَّ شيءٍ وإن اكتملت أسباب الرَّفاه في حياته، وهذا سرُّ الحياة الذي لا يحتكم إلى قواعد واحدة ولا إلى شروط ثابتة يتحقَّق معها الهناء أو ينقطع دونها، ومفهوم السَّعادة هذا يوافق مفهوم السَّعادة في الإسلام.
وقد عزا الإسلام راحة الإنسان إلى التَّسليم بقضاء الله وقدره،والإيمان بمستقبلٍ أجمل ودوام الشُّكر في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وقد وردت هذه المعاني في آياتٍ كثيرةٍ، منها قول الله تعالى: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيْدَنَّكُمْ"[١]، كما تدعو آيات الذِّكر الحكيم إلى الصَّبر وتؤكِّد على كونه مفتاحًا للسَّعادة ودلالةً على رسوخ الإيمان الَّذي يهدي السَّعادة الحقَّة والهناء الدَّائم الذي لا ينقطع لمؤمن، فوردت آياتٌ كثيرةٌ تربط الصَّبر بالإيمان وتعد الصَّابرين بالثَّواب، منها قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ مَع الصَّابِرِيْنَ"[٢]، كما أكَّدت آياتٌ أخر على أهميَّة الأمل بالله كقوله تعالى: "وَلَا تَيْأَسُوْا مِنْ رُوْحِ اللهِ"[٣]، وفي سورةٍ أخرى: "لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ"[٤].
أنواع السعادة
للسَّعادة مسالك عديدةٌ، فلا يشترك النَّاس جميعًا في كيفيَّة سعيهم إليها، ولا يتَّخذون طريقًا واحدةً لوصولها، فمن النَّاس من يرى هناءه في الأمور الماديَّة وفي رفاهيَّات الحياة الملموسة، فيسعى إلى امتلاك دارٍ فسيحةٍ وسيارةٍ حديثة ويبتاع الثِّياب والمجوهرات، ويجد في ذلك ما يسعده ويرضيه، ومن النَّاس من لا يعرف راحةً إلَّا بالعمل، فبقدر ما يتعب بدنه ترتاح روحه، وبقدر ما ينجز من أعمالٍ يشعر بقيمته وبوجوده، وغيره من يسعد بالعلم، فيتزوّد منه ما استطاع ويكدِّره انقطاع أسباب وصوله، فمتى اقتدر على تحصيله كان مسرورًا وإن أتعبه، ومتى امتنع عنه تكدَّر وعاش في حزن.
من النَّاس مَن ينشد الهناء الأوَّل والأخير في داره ويرى في الزَّواج السَّعيد غايته الأولى فيجعل تكوين الأسرة هدفًا، والنَّاس يشتركون في أكثر هذه الأمور، ولا شكَّ أنَّ السَّعادة تكاملٌ يتحصَّل من اجتماع كلِّ تلك العناصر معًا، إلَّا أنَّ لكلِّ امرئٍ أسبابه الملحَّة ونظرته الخاصَّة وتطرُّفه إلى أمرٍ يلتمس فيه السُّرور أكثر من سواه، ومن النَّاس من لا يعنيه كلُّ ذلك، ويمدُّ حبالًا تصله بالله يلتمس في صلته هذه السَّعادة، ويصل إلى أعلى درجات الزُّهد بالدُّنيا ويرضى منها بما يمدُّه بالقوَّة ويبقيه حيًّا ليتمكَّن من التَّعبُّد والتماس سعادة روحه فيما يصله بالله من ذكرٍ وعملٍ صالحٍ وعلمٍ نافعٍ ينشد فيه أوَّلاً وأخيرًا رضوان الله وبركته.
العاقل مَن أدرك مِن مسرَّات الدُّنيا ما لا يلهيه عن آخرته، ومن عمل لآخرته وتنعَّم فيما آتاه الله في دنياه، وقد قيل في ذلك: "اعمل لدُنياكَ كأنَّك تعيش أبدًا، واعملْ لآخرتِكَ كأنَّك تموتُ غدًا"، فعلى الإنسان أن يراعي أمور دنياه دون أن ينسى آخرته، وأن يصنع لآخرته دون أن يهمل دنياه[٥].
تختلف نظرة الإنسان إلى السَّعادة وفهمه لها من عمرٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ إلى أخرى، فما يسعدنا في السَّنوات الأولى من حياتنا يختلف عمَّا يسعدنا حين نبلغ العاشرة على سبيل المثال، وهو ما يختلف أيضًا عمَّا يسعدنا حين نصبح بالغين راشدين، ويستمرُّ هذا التَّغيير إلى أن يوارى واحدنا التُّراب، فالتَّجارب بدورها تغيِّر نظرتنا إلى الأمور، فمن طرأت له علَّةٌ أو أمسك به مرضٌ ثمَّ شفي منه ليرى السَّعادة كلّها في العافية، فقد عرف بالسّقم قيمة العافية، وأدرك بالألم نعمة الصِّحة فتنبَّه إلى ما غفل عنه غيره ممَّن لم يطرأ عليهم مرض.
ثمَّة من أحبَّ العلم وتمنَّى بلوغ درجاته العالية فلم تواتيه الظُّروف، ولم يقدر منه إلَّا على اليسير، فهذا يرى قيمة ما بلغه الآخرون من علوم، بل إنَّه ليعجب ممّن يستطيع إلى علمٍ سبيلاً ولا يسلكه، وهو يرى في ذلك السَّعادة، ومن فقد حضن العائلة أو حنان الأم أو رعاية الأب أدرك السَّعادة الكامنة في تلك الأشياء أكثر ممن أنعم الله عليه بها.
إنَّ درجة نضج الإنسان ووعيه كلَّما ازدادت فتحت عينيه على ما لم يكن يدركه، ليرى أبعادًا جديدةً للحياة تغيِّر أسلوبه فيها، وتمكِّنه من التماس أسبابٍ جديدةٍ للهناء والرِّضا، ومن عَمي عن ذلك يبقى في شقاءٍ لا انتهاء له يبحث عن حياةٍ ليس لها وجود، فإنَّ الحياة بجملتها لا تكتمل أسبابها لأحد، كما لا تنغلق جميعها عن أحد.
الفطنُ من عرف ما يسعده، والتمس ما حوله من نعم مهما صغرت فإنَّ غيره في عوزٍ إليها، وإنَّ من النَّاس من إذا حانت ساعته تمنَّى لو ازداد عمره ساعة، فطالما أنَّ النَّفَسَ لم ينقطع فإنَّ في الحياة ما يستحقُّ أن نشعر بالامتنان لأنَّنا موجودون، فإنَّ وجودنا معجزة الله الَّتي تستحقُّ أن نحتفي بها ونشكرها بالعمل والسَّعي. وفي ذلك قال محمَّد بن عبد الله البغداديّ:[٦]
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ فِيْ مَهلٍ
- فإنَّ حظَّكَ بعدَ المَوتِ مُنْقَطِع
مفاتيح السعادة الحقيقية
أكثر النَّاس ظفرًا بالرَّاحة وأعمُّهم رضًا هو من استغنى عن المطالب الماديَّة بالمعنويّ، ومن آثر النَّاس عن نفسه وجعل إسعادهم غايته، فإنَّ قيمة الإنسان تحدَّد بالأثر الَّذي يحدثه في حياة الآخرين، وبمقدار ما يعينهم يفتقدونه بعد موته ويجلُّون وجوده بينهم، ويرون في وجوده نعمةً فينشرح صدرهم إليه ويعظمون قدره، فإنَّ الحياة جميلةٌ بالعون والإيثار، والهموم خفيفةٌ حين تحملها الجماعة، وإنَّ في الهمِّ فرجًا لا يلتمسه جميع النَّاس، فكلُّ شيءٍ يقدِّره الله لخير وإن كان ثقيلاً على صاحبه محزنًا له، وكلَّما سلَّم الإنسان لتقدير الله ومشيئته هانت عليه الطَّريق وعرف الهناء والرَّاحة حتَّى في عزِّ الشَّقاء.
إنَّ إسعاد الآخرين هو إسعادٌ للنَّفس، ومن بذل الحبَّ لا بدَّ أن يردَّ إليه يومًا، ومن أهدى السَّعادة لأحدٍ عادت إليه أضعافًا، أمَّا من آثر نفسه في كلِّ أمر وقدَّم مصالحه على منافع النَّاس فلا بدَّ هو في حزنٍ ولو طالت الأيَّام، فإنَّه سيجد نفسه يومًا بلا عونٍ ولا محبٍّ، وتنتهي حياته دون أن يجد من يفتقده بعد الموت، ودون أن يعرف لوجوده قيمة غير أنَّه حبيس نفسه لا يرعى بالًا إلَّا لنفسه فيضيعها بذلك ويظلمها بحبِّه لها، فإنَّ حبَّ النَّفس لا يفلح ولا يؤتي ثماره ما لم يكن في شكله الصَّحيح وصورته الصَّحيحة، وما لم يحبّ الإنسان الآخرين فإنَّه لن يحبَّ نفسه أبدًا وإن ظنَّ عكس ذلك.
إنَّ الحبَّ مفتاح السَّعادة، ولا هناء في هذه الحياة دون حب، فكيف سيسعد الإنسان ما لم يحب النَّاس والحيوانات والشَّجر والحجر والسَّماء والنَّجوم، وكيف سيسعد ما لم يحبّ الله قبل كلِّ شي، وكيف سيفهم سرَّ الحياة إن لم يطمئن إلى كلِّ ما فيها ويرضى بما تحمله وما تأتي به من عتمةٍ ونور، وهل من قيمةٍ للنُّور دون عتم، وهل يعرف الإنسان طعم الرَّاحة ما لم يدرك التَّعب، وهل يعنيه الضَّحك ما لم يبك؟
إنَّها جميعًا ألوان الحياة، لا تكتمل دون بعضها البعض، وكما لوحة الرَّسام لا يصنعها لونٌ واحدٌ فإنَّ الدُّنيا كذلك، وهذا التَّمازج بين الحزن والفرح والبكاء والضحك والنَّجاح والإخفاق هو ما يصنع قيمة كلِّ شيء، ولو انعدم هذا التَّنوُّع لما كانت الحياة حياةً ولفقد كلَّ شيءٍ قيمته وجدواه، وإن اهتدى الإنسان إلى ذلك لصارت سبل الحزن إليه ضيِّقةً واتَّسعت أسباب سروره.
لا يستطيع المرء إمساك نفسه عن حزنٍ أو ضيقٍ، لكنَّ السِّرَّ هو أن تكون هذه اللَّحظات أقلَّ ما يمكن ولا تستحكم حياة المرء وتقوده، فإنَّ الحزن هاويةٌ إلى الإخفاق والأذى والشَّر إذا طال على صاحبه، وإنَّ السَّعادة مفتاح المفاتيح لحياةٍ ملؤها التَّوفيق والهداية والرَّاحة والسَّكينة من الله.
لقراءة المزيد من الموضوعات، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال:تعبير عن الأمل والتفاؤل.
المراجع
- ↑ سورة إبراهيم، آية:7
- ↑ سورة البقرة، آية:153
- ↑ سورة يوسف، آية:87
- ↑ سورة الزمر، آية:53
- ↑ أنطون الجميل، كتاب: مجلة الزهور المصرية، صفحة 225. بتصرّف.
- ↑ "50 عبارة من أجمل ما قيل عن الموت"، إدأرابيا، اطّلع عليه بتاريخ 20/12/2020. بتصرّف.