موضوع تعبير عن السفر

كتابة:
موضوع تعبير عن السفر

لماذا يسافر النَّاس؟

اختبر الإنسانُ السَّفر منذ بداية وجوده على المعمورة، حيث كان مضطرًّا للتنقُّل بحثًا عن الماء والطَّعام، ثمَّ استمرَّ في ذلك بعد أنْ أصبح في غنيةٍ عن مشقَّة الطَّريق، فقد فطرتِ النَّفس البشريَّة على حُبِّ التَّغيير والتَّجديد وسأمها المكوث في مكانٍ واحدٍ، وفي ذلك قال الشَّاعر أبو تمَّام:


وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مخلقٌ

لديباجتَيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ


وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ الأوَّلونَ قد اهتدوا لفضائلِ السَّفر والتَّنقُّل، بما يحمله من معارفَ جديدةٍ وما يفتحه أمام العقول من آفاقَ واسعة لا يستطيع الإنسان إليها وصولاً فيما لو راوح في مكانه، فمن يقيم في شرق العالم لا يطال مدارك المقيمين في غربه ولا يكشف خفاياه ما لم يقم فيه مهما وصله من أخبار ذلك الغرب وحكاياته فإنَّ منْ سمعَ ليس كمن رأى.


والنَّاسُ في أسفارِهم ليسوا سواءً، فمنهم من يسافر مرغمًا ومدفوعًا لعوزٍ ماديٍّ يعانيه أو هربًا من همٍّ يعانيه وشعورٍ بالنَّقص، فيكون سفره ثقيلاً في روحه مرهقًا لنفسه، لا يستشعر به هناءً ولا راحةً لأنَّه لم يكن بملء الإرادة، ومنهم من يسافر طلبًا لعلمٍ امتنع عنه في بلاده أو بحثًا عن حياةٍ أفضل غير الَّتي خبرها، وقد يسافر آخرٌ حبًّا بالتَّنقُّل والتَّجديد ورغبةً في استكشاف الوجوه الأخرى للنَّاس والحياة، وهو ما لا ينفي اشتياق المرء لموطنه الأوَّل حتَّى وإنْ أنس في البلاد الجديدة ورضي بالعيش الكريم فيها، وفي ذلك قال أبو تمَّام:


كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفَتَى

وحنينُه أبدًا لأوَّلِ منزلِ


فالإنسان مجبولٌ على الحنين، والوفاء أصلٌ في طبعه، وما عدا ذلك فهو ناشزٌ غريبٌ عن الأصل، ومهما راقت للمرء أحوال البلاد الأخرى فلن تحلَّ في قلبه محلَّ الوطن الأوَّل، ولن تنسيه البيوت الفاخرة بيته الأوَّل والنَّهر الأوَّل الَّذي منه شرب وعلى ضفافه لعب.


إيجابيات السَّفر وسلبياته

والمشاعر يحكمها طبع الإنسان من جهةٍ وطبيعة سفره وحاله من جهةٍ أخرى؛ فمن خبر محاسن الغربة ووجد فيها ملاذًا مطمئنًا له لن يسوءه البعد كما يسوء الغريب المنبوذ الذي افتقد انتماءه ودفء عائته في غربته. ففي السَّفر الإيجابيُّ والسَّلبيُّ شأنه شأن أيِّ خيارٍ متاحٍ للإنسان. ومتى كانت فيه منفعةٌ ماديَّةٌ أو علميَّةٌ أو نفسيَّةٌ لا إذلال فيها ولا تجريد من هويَّة الفرد وانتمائه وولاءه لأرضه فذلك هو السَّفر المحمود الَّذي يجني فيه المرء خيرًا كثيرًا لنفسه ووطنه، وما كان سوى ذلك مما يحط من قدر المرء ويذيبه في فضاء الآخر وعالمه فذلك فيه هلاك الرُّوح ونفيها عن نفسها حتَّى يرى المرء نفسه خارج أرضه وروحه معاً.


والفصل في هذا ليس يرجع إلى البلد المقام فيها فقط، ولا إلى الفرد المسافر إليها وحده، وإنَّما إليهما معًا تعود نتائج الأسفار سلبًا أو إيجابًا؛ فقد يسافرُ المرء إلى بلادٍ متحضِّرةٍ ومنفتحةٍ فلا يستطيع التَّأقلم مع تفاصيلها ولا يتقبَّل تطوُّرها، بل إنَّه قد يهاجم هذا التَّطوّر دون أن يبصر به خيرًا، لأنَّه ينظر إلى كلِّ ذلك بعينيه وحده دون أدنى محاولةٍ لتوسيع نطاق الرُّؤية، وقد يسافر آخر إلى بلادٍ متواضعة الحال ويجد فيها من أسباب الهناء ما لم يجده فيما هو أفضل منها، ذلك أنَّه ألف طبائع أهلها وجوَّها واطمأنَّ إلى الحياة فيها والتمس فضائلها بعينه الفاحصة ونفسه الخبيرة.


ومن النَّاس من لا تلائمه الأسفار والتَّنقُّلات بكليَّتها فلا يقع على جميلٍ في بلادٍ غير بلاده ولا يأنس بمعشر أحدٍ غير أهله، فذاك لا يرى خيرًا في سفرٍ ولا يعرف من فضائل البلدان غير فضيلة الوطن، وغيره بالسَّفر أليق وبالتَّنقل أجدر، فلا يهنأ في مقامٍ طويلٍ بأيِّ أرضٍ كان ولا يسأم من تحوُّلٍ وحركةٍ مهما بعدت عن بلاده، وهو ما يذكِّرنا بحيوات الرَّحالة العرب ممَّن عرف عنهم التَّنقُّل والسَّفر طوال حياتهم من أمثال: ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما ممن كتبوا عن رحلاتهم الكثير من أخبار البلدان وأحوال النَّاس.


فإذا اجتمعت للمسافر الغاية الجليلة والوسيلة النَّبيلة، واهتدى إلى بلادٍ كثيرة الخير والشَّمائل وكانت في صدره رحابةٌ للجديد وقبولٌ للغريب وغير المألوف رأى في السَّفر محاسنَ كثيرةً واغتنى فيه عما يعتريه من شوقٍ وحنينٍ، إلَّا أن يكون ذلك جحودًا للأصل وانسلاخًا عن المنبت فيصير الاندماج ذوبانًا وضياعًا وفقدانًا للهويَّة، فإن رأى الإنسان ما أعجبه في بلادٍ غير بلاده وازدرى موطنه لنقصٍ فيه فليعلم أنَّ نقص الأرض من نقص أهلها وتقصيرها ما هو إلَّا تقصيرهم عمَّا همَّ به غيرهم من النَّاس.


والنَّاس طبائعُ لا تتوافق وإن تشابهت، وهم في حيواتهم مختلفون، لا يعيشون بصورةٍ واحدةٍ حتَّى في البيت نفسه، وكلَّما اتَّسعتِ المسافات الجغرافيَّة فيما بينهم ازدادت أسبابُ التَّباين في طباعهم وأفكارهم، وهذا التَّنوُّع _حسبما توصَّل باحثون في علم الاجتماع يزيد من فرص الابتكار في المجتمع الواحد إذا ما احتوى تنوُّعًا سكانيًّا في العرق والجنس والأفكار، إذ يساعد ذلك في الإبداع ويشجّع على البحث واكتشاف وجهات نظرٍ جديدةٍ تفتح بدورها آفاقًا جديدةً أمام الأفراد. والسَّفر يتيح فرصًا طيبةً لتحقيق هذا الانفتاح الفكريّ والتَّأثير المتبادل نحو حياةٍ أفضل ومجتمعٍ أكثر تقبُّلاً للآخر، وهو ما قالت فيه العرب قديمًا: اغترب تتجدد.


أين أسافر؟

وعلى المسافر أن يختار وجهته بعناية تبعًا للحاجة التي ينشدُها من سفره؛ فإن سافر لنزهةٍ واستجمامٍ فإنَّ أجمل بلاد الأرض وأكثرها شهرةً بمعالمها السياحيَّة هي تايلاند وتركيا واليونان وإيطاليا وجزر المالديف وماليزيا وسويسرا وهذا يختلف أيضاً من ناظرٍ إلى ناظرٍ، أمَّا إن كان السَّفر لتحصيلٍ علميٍّ فأميركا وبريطانيا في الصدارة، وقد كشفت إحدى المؤسسات المختصة بالدراسة في قائمتها السنوية حول الجامعات الأولى في العالم عن تصدُّر الجامعات الأميركيَّة القائمة لتأتي الجامعات البريطانيَّة في المرتبة الثَّانية، بينما حازت أستراليا المرتبة التَّاسعة والعشرين عالميًّا وكذلك حوت القائمة العديد من البلدان من بينها ألمانيا وإيطاليا والصين واليابان وهولندا.


أمَّا من سافر طلبًا للاستشفاء من مرضٍ أصابه أو لعلاج علَّةٍ يئس من برءها في بلاده، فعليه بالسَّفر إلى الولايات المتَّحدة أو تايوان أو ألمانيا أو اليابان أو فرنسا أو سويسرا أو التشيك أو تايلاند أو المملكة المتَّحدة أو البرازيل أو السُّويد أو كوريا أو إستونيا أو تشيلي؛ فإن في تلك البلاد أفضل مئة مستشفى في العالم وللولايات المتَّحدة الأميركيَّة الحصَّة الأكبر منها حسب الإحصائيَّات الأخيرة. ونسأل الله ألَّا يحوجنا إلى مثلِ هذه الأسفار.


الإنسان الَّذي بدأ أسفاره مشيًا على الأقدام وركوبًا على الماشية لم يستسلم لتعب الطَّريق وطول مسافاتها، فطوى الأرض بالعربات وعبر البحار بالسُّفن والجوَّ بالطَّائرات، فأصبح الكون بأسره بلادًا كبيرةً يقصد منها ما يشاء، حتَّى بلغ به الأمر أن سافر إلى القمر واستطلع الفضاء انتهاءً إلى محاولاته في العيش على المرِّيخ. ولم يتوقف الأمر عند هذا بل إنَّ الدِّراسات العلميَّة في تطوُّرٍ وسعيٍ حثيثٍ للسَّفر عبر الزَّمن، فقد وصل التَّطوُّر العلميُّ إلى الحدِّ الَّذي بحث فيه العلماء إمكانيَّة السَّفر إلى أزمنةٍ سابقةٍ أو لاحقةٍ دون أن تظهر آثار الشيخوخة على المسافر إلى المستقبل، لكنَّ هذه تبقى مجرَّد نظرياتٍ لم يبتّ بأمرها حتَّى الآن.


ومع كلِّ التَّطوُّر الَّذي وصل إليه الإنسان، والتَّسهيلات الَّتي اهتدى إليها لجعل أسفاره أكثر سهولةً وأقلَّ جهدًا إلَّا أنَّ حريَّة المرء تضاءلت عمَّا كانت عليه سابقًا، حيث لم يعد بإمكانه التَّنقُّل بالمجَّان ولم يعد بإمكانه السَّفر دون شروطٍ والتزاماتٍ تختلف من بلادٍ إلى أخرى. فقد أصبح السَّفر ملكيَّةً خاصَّةً لمن يحوز المال في أغلب الأحيان، وصار حلمًا في المقابل لكلِّ فقيرٍ، فأمست تساهيل السَّفر عراقيلَ لمن هم دون أن يحوزوها، وربَّما بلغ بهم الأمر أن يتمنَّوا لو كان بإمكانهم السَّفر مشيًا على الأقدام أو ركوبًا لدابَّةٍ تمنحهم من الحريَّة ما لم تمنحهم إيَّاه الطَّائرة.


والمرء لا يعدم حيلةً لما يحبُّ ويهوى، وهو إن افتقد الوسيلة لسفر البدن فلن يسلبه أحدٌ حريَّة الخيال والتَّصوُّرات التي يعيش بها كلُّ ذي حالٍ متواضعةٍ، فإن عدم كلَّ السُّبل إلى سفره ذهب بروحه وفكره يرسم صورًا لأماكن جديدةٍ وسماءٍ غير الَّتي تظلِّله وأناسٍ غير الذين يعرفهم، وهذه حالٌ نلتمسها غالبًا عند الفنَّانين وذوي الخيال الخصب ولاسيَّما الكتَّاب منهم ممن يمتلكون القدرة على ابتكار عوالمَ جديدةٍ غير عوالمهم، وهم بدورهم يتيحون الفرصة للقرَّاء لمشاركتهم هذه الخيالات والَّتي قد تكون وثيقة الصِّلة بالواقع فتوحي للقارئ بأشكالٍ أخرى للحياة لم يكن ليعرف عنها لولا ما كتبه الكاتبون، لتغدو الرِّوايات والقصص جوازات سفرٍ لمن لا يجوز لهم السَّفر في عصرنا.

2750 مشاهدة
للأعلى للسفل
×