مفهوم الصدقة
إنّ الصدقةَ في الإسلام من أفضل العبادات التي يتقرّب بها العبدُ من ربّه، ولو نظرنا إلى اشتقاق كلمة"صدقة"؛ سنجدها مأخوذةٌ من الصّدق، فالتّصدُّق والإنفاق علامةٌ من علامات الصّدق مع الله، وهذا إن أخرجها الإنسان سرًّا، لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ويُمكن أن يُخرجها في العلن؛ وذلك إذا كان مقصود المُتصدّق حثّ النّاس على التصدُّق والإنفاق في سبيل الله، أما إذا كان يقصد بفعله هذا الافتخار أو التّشهير بما يُعطي لهم الصّدقة فلا صدقة له؛ لأن الضابط في إخراج الصّدقة أن تكون خالصةً لوجه الله الكريم، وليس لأحدٍ فيها شيء.
الصّدقة هي: اقتطاع المُسلم جزءًا من ماله على سبيل الشُّكر على ما أنعم الله عليه، وليست الصّدقة من الفرائض التي أوجبتها الشّريعة الإسلاميّة الغرّاء، فهي بابٌ من أبواب النّافلة، وأما الزّكاة فهي واجبةٌ على كُلّ مُسلمٍ ومُسلمة قادرٌ مُستطيعٌ أداؤها، وإذا لم يُخرجها المُسلم في وقتها فهو آثمٌ؛ لأن الزكاة من أركان الإسلام الخمسة، فقد روي عن ابن عمر-رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وسلّم- أنه قال :"بُنِي الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ"[١]
قد حثّ القُرآن الكريم على بذل المال في الصّدقة، وبشّر المُتصدّقين بأن أجرَهم عند ربّهم والله تعالى واسع عليم، ولا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[٢]
من هُنا كان الفضل الكبير والأجر الجزيل من ربّ العالمين على المُتصدّقين؛ فأجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يجزنون، وهذه الفضائل لا يحظون بها إلّا إذا أنفقوا دون أن يتبعوا صدقاتهم منًّا ولا أذًى، فإن لحق بها أحدهما؛ بطلت تلك الصدقة، ولم ينتفع صاحبها بها.
أنواع الصدقة
إنّ من نعم الله على عباده أن أرسل لهم رُسُلًا مُبشّرين للطّائعين بجنّات عرضها السّموات والأرض، وللعاصين بنار جهنّم خالدين فيها هي حسبُهم، ولعنهم الله، ولهم عذابٌ مقيم، وقد كان النبيّ-صلى الله عليه وسلّم- هو خاتم الأنبياء والمُرسلين، وكان من أهم الأساسات التي دعا إليها ورغّب فيها وحثّ على التمسُّك بها هي الصّدقة، ولا غرو في أن مجالات الصدقة لا تتوقّف على الصّدقات المادية، بل تتعدّاها إلى لون آخر لا يجد الإنسان في الوُصُول إليه أي صُعُوبةٍ أو مشقّةٍ، وهي الصّدقات المعنويّة.
تتمثّل الصّدقات المعنويّة في التسبيح والتكبير والتهليل والاستغفار، وقد قال النبي:"إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً"[٣]، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر، وقد قال النبي:"وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَة"[٣]، وكذلك التبسّم في وجه المُسلم صدقة.
أمّا الصدقات المادية فهي التي تتعلّق بالمال، فالمُسلم يُخرج ما وفّقه الله لإخراجه لأنواعٍ مُعيّنةٍ من النّاس، ومن تلك الأنواع: الأبناء، فإذا ما أنفق الأب على أبنائه، وأحسن تربيتهم وقوّم سُلُوكهم، كانوا خيرًا له في الدّنيا والآخرة، ففي دالدنيا يُراعونه حقّ الرّعاية، ويبذلون الغالي والنّفيس من أجل إسعاده ويكونون له سندًا، وبعد مماته يدعون له بالرّحمة والمغفرة، ويُعدّ هذا من قبيل الصّدقة، فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلّم-:"أربعةُ دنانير: دينارٌ أعطيتَه مسكينًا، ودينارٌ أعطيتَه في رقبةٍ، ودينارٌ أنفقتَه في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفقتَه على أهلِك؛ أفضلُها الذي أنفقتَه على أهلِك"[٤]
فقد فضّل النبي الصّدقة على الأهل عن الصّدقة على المسكين، أو الصّدقة التي يُعتق بها رقبة، أو حتّى التي تُنفق في سبيل الله؛ لأن صاحبها له أجر الصّدقة فقط، وأمّا الصّدقة على الأقارب فلها أجران: أجر الصّدقة والصّلة، وقد جعل النبي خير النّاس خيرهم لأهله، وممّا يدخُل في الصّدقات المادية أيضًا: الصّدقة على اليتيم، فقد أشار النبي إلى مكانة كافل اليتيم، وما أُعدّ له من الثّواب، فقال-صلى الله عليه وسلّم-:"كافِلُ اليتيمِ له أو لغيرِهِ، أنا وهو كهاتَيْنِ في الجنّةِ"[٥].
فقد أشار النبي بالسّبابة والوُسطى؛ ليدُل على قُرب منزلة كافلاليتيم من النبي، وقد استنبط العُلماء من هذا الحديث: إنّ علم الإشارات الذي يُستخدم للصُمّ والبُكم ليس علمًا مُستحدثًا، وإنما هو علمٌ قديم وضع النبي اللّبنة الأُولى فيه، وكذلك الصّدقة أو الإنفاق في سبيل الله، فقد قال تعالى: {انفِروا خِفافًا وَثِقالًا وَجاهِدوا بِأَموالِكُم وَأَنفُسِكُم في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمونَ}[٦]، تدخل الصّدقة الجارية أيضًا في إطار الصّدقات المادية، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلّم-:"إذا ماتَ الرجلُ انقطعَ عملُهُ إلَّا من ثلاثٍ: ولدٍ صالحٍ يدعو لَهُ، أو صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفعُ بِهِ"[٧]
قد حدّد القُرآن الكريم الأصناف التي تستحقّ الصّدقات والزّكوات، فقال تعالى: {إِنَّمَاالصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمَساكينِ وَالعامِلينَ عَلَيها وَالمُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم وَفِي الرِّقابِ وَالغارِمينَ وَفي سَبيلِ اللَّهِ وَابنِ السَّبيلِ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَليمٌ حَكيمٌ}[٨]، فالأصناف الثمانية التي ورد ذكرها في هذه الآية هي المصارف الشرعيّة التي يجوز للمرء أن يُخرج زكاته وصدقته فيها، فالفقير والمسكين هما الذين لا يجدون ما يكفي حاجاتهم الضروريّة، ولكن الفقير هو الذي عنده ما يكفيه لأقلّ من نصف سنته، فيأخُذ من مال الزكاة؛ حتى يكمل ما نقص منه، والمسكين هو الذي يملك ما يكفيه لأكثر من نصف عام، ويُعطى من مال الزكاة؛ حتى يجبُر ما نقص من ماله.
العاملون على جمع الصّدقة وتوزيعها يجوز لهم أن يأخذوا من الصّدقة، والمؤلّفة قلوبهم الذين يُعطون جُزءًا من الصّدقة لاستمالتهم إلى الإسلام، كما أن جزءًا منها يُعطى لعتق الرّقاب، وللغارمين هم الذين استدانوا من الناس، ولم يستطيعوا أن يردّوا تلك الديون إلى أصحابها؛ فيُأخذ من مال الصدقة؛ حتى تُسدّ تلك الديون، والذين يُجاهدون في سبيل الله فيُأخذ من مال الزكاة لإعداد الجيش، وشراء الأسلحة، وغيرها من الأشياء التي تُساعد على تفوّقهم في الحروب وإخلاء كلمة هذا الدين عاليةً خفّاقةً، والذي انتهى ماله وهو في طريقه، ولم يتبقّ معه ما يصل به إلى بلده؛ فيُأخذ من مال الزكاة ما يكفي لأن يرجع إلى بلده.
إنّ أولى النّاس بالزكاة أو الصدقة هم الأقارب إذا كان فيهم من يدخل تحت دائرة تلك الأصناف؛ لأن أجر الصدقة أو الزكاة لها أجران أجر الصدقة وصلة الرحم، وصلة الرحم مما أوصى به الله تعالى، وأوصى به رسوله-صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يُوجد من الأقارب هذه الأصناف.
ثمرات الصدقة
هناك العديد من الثّمرات التي يحظى بها المُتصدّق والمُنفق في سبيل الله، ولعلّ من أبرز الثمرات التي يحظى بها أنّ الصّدقة تُطفئ غضب الله، فإذا غضب الله تعالى على عبدٍِ لجُرمٍ فعله وأخرج هذا المُذنب صدقةً؛ أطفأت الصّدقة غضب الله عليه، ومن ما يدُل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلّم-:"إنَّ صدقةَ السرِّ تطفئُ غضبَ الربِّ تبارك وتعالى"[٩]، كما أنها تكون وقايةً لصاحبها يوم القيامة، فهي تمنع العذاب عنه، وفي ذلك يقول المُصطفى: "يقِي أحدُكم وجْهَهُ حَرَّ جَهنمَ ولو بِتَمرةٍ، ولو بشِقِّ تمرةٍ"[١٠]، هذا إن كانت الصّدقة خالصةً لوجه الله الكريم، ولم يُخرجها رياءً ولا سُمعةً.
صدقة المُسلم تُكوّن ظلًّا عليه يوم الحساب يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وتقي الصدقة صاحبها من الأمراض، وتكون سببًا لشفاء الأمراض، فهي كالحصن المنيع للمُسلم من الإصابة بأي مرضٍ من الأمراض، المُتصدّق تدعو لهالملائكة بالخيرات والبركات، وأن يرزُقه الله من حيث لا يحتسب، وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلّم- :"ما من يومٍ طلعتْ شمسُه، إلَّا وبجنبَيْها ملَكان يُناديان نداءً يسمعُه خلقُ اللهِ كلُّهم غيرَ الثَّقلَيْن: يا أيُّها النَّاسُ هلمُّوا إلى ربِّكم، إنَّ ما قلَّ وكفَى خيرٌ ممَّا كثُر وألهَى، ولا آبتِ الشَّمسُ إلَّا وكان بجنبَيْها ملَكان يُناديان نداءً يسمعُه خلقُ اللهِ كلُّهم غيرَ الثَّقلَيْن: اللَّهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلفًا، وأعطِ مٌمسكًا تَلفًا"[١١].
كما أنّ للصائمين بابًا يُسمّى الريّان، يدخُل منه الصّائمون يوم القيامة، للصدقة أيضًا بابٌ يدخُل منه المُتصدّقون يوم القيامة، وهو مُختصٌّ بالمُتصدّقين الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجه الله، ولم يُخرجوها لمُجرّد الإخراج، أو حتى يُقال عليهم مُتصدّقون. المُتأمّل من أصحاب العُقول السّليمة هذه الثّمرات والفضائل التي أعدّها الله للمُتصدّقين، والثّواب الجزيل الذي يحظى به في الدُّنيا والآخرة، جعل الصّدقة شيئًا أساسيًّا في حياته، لا ينفكّ عنها ولا تنفكّ عنه، وخصّص جُزءًا معلومًا من أمواله كلّ فترةٍ زمنيةٍ، وأخرجه للمُستحقّين للصّدقة؛ حتى يكون من الذين أنعم الله عليهم، وينال هذا الثّواب.
المراجع
- ↑ رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج صحيح ابن حبان، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:1446.
- ↑ سورة البقرة، آية:262
- ^ أ ب رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبوذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:1006 .
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:878.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبوهريرة، الصفحة أو الرقم:4448 .
- ↑ سورة التوبة، آية: 41.
- ↑ رواه ابن عساكر، في معجم الشيوخ، عن أبوهريرة، الصفحة أو الرقم:432.
- ↑ سورة التوبة، آية:60
- ↑ رواه رواه الدمياطي، في المتجر الرابح، عن معاوية بن حيدة القشيري، الصفحة أو الرقم:110.
- ↑ رواه رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن عدي بن حاتم الطائي، الصفحة أو الرقم: 8147.
- ↑ رواه رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن أبو الدرداء، الصفحة أو الرقم: 2/79.
- ↑ ابن هشام، اوضح المسالك، صفحة 55. بتصرّف.
- ↑ محمد أبوموسى، التصوير البياني، صفحة 77. بتصرّف.