نشأة المسرح
مثل أيِّ نوعٍ من أنواعِ التعبير البشريّ عن كل ما يختلجُ في النفس من مكنوناتِ الشعورِ والعواطفِ والتجاربِ الإنسانية كان المسرح، إنَّهُ أداةٌ من أدواتِ الإنسان التي تبثُّ ما في داخله ليظهر للآخر من خلال فنٍّ حواريٍّ تمثيليّ يُقدّمُ بصورةٍ تلامسُ قلوبَ الجماهيرِ التي تشتركُ مع بعضها بالمعاناةِ الواحدة، وتصبُّ أهدافها في اتّجاهٍ واحد، فخشبةُ المسرح هي الوجهُ الآخر للشعر والرسمِ والنحتِ والغناء والرقص والتمثيل، فكلٌّ من هذه الفنون يؤدّي رسالةً للآخر، ويوصِلُ إليه نوعًا من الفهم بمعاناةٍ ما، يريدُ كاتبُ المسرحيةِ أن يبثَّ شجونه من خلاله، وأن يثورَ على المجتمعِ والظروفِ التي دفعتْ تلك المعاناة إلى الظهور.
إذا ما انتقلَ المتأمل إلى كلمة المسرح وأصل معناها فسيجدُ أنها ظاهرةٌ تقوم على الفنّ بالدرجة الأولى، وتقومُ في أساسها على اللقاء المنظّم والواعي والمقصود فيما بين المشاهد والممثل، ويكون هذا العمل بهدف تجسيدِ النص الأدبي الذي أراده الكاتب، واستخدم فيه الأسلوب اللغوي والتعابير الفنية والبلاغية التي أرادها، وذلك من خلال مزج المسرح للتعبير الجسدي واللغوي لأداء مهمة فكرية أو جمالية تعطي المتعة للمشاهد.
يؤدّي المسرح دوره في التسلية والفكاهة في نوعٍ من أنواعه، حيثُ يكونُ العمل المسرحيُّ الناجح نتيجةً للكاتب المبدع الذي ينتقي موضوعًا مهمًّا يلامسُ قلوب الجماهير، والمخرج الذي يُتقنُ فهمَ الموقف فينتقي له ما يناسبه من ممثلين وأزياء وإضاءة وديكور وتعبيرات، والممثل الفنان الذي يعرفُ كيفَ يؤدّي دورَهُ بأفضل ما يُمكن، وغالبًا ما تكونُ الموسيقى جزءًا من العمل المسرحي بشكلٍ من الأشكال، لأنها فنٌّ يتمازجُ مع الحوار والتمثيل للتأثير في الجمهور.
تعودُ نشأةُ المسرحِ إلى الإغريق، إذ إنّ الإيقاع كان مادة هامة للتعبير عن مكنوناتِ النفس، فكان الصفيرُ في الأعياد ومواسم الربيع رمزًا للفرح بقدوم الخير والخصوبة، ثمَّ ازدهر ذلك الفن بامتزاجه مع التمثيل في زمن شكسبير، فهو الذي أحدث ثورة في عالم المسرح من خلال إبداعه في اللغة والصياغة والعمق وإجادة وصف الألم، فعُرف المسرح الروماني بشهرةٍ واسعة، الذي أبدعَ فيه الشاعر والممثل والمخرج، واستوفت خصائص المسرح جميع مكوّناتِ النجاح، وقد استطاع فيما بعدالشاعر العربيّ أن يستفيد من توظيف تلك الرؤى في قصائده، وأن يكوّن المزيد من القدرات التعبيرية التي تفي بغرضهِ في بيانِ عواطفهِ، بالإضافةِ إلى توظيف إدراكهِ لروح القبيلة العربية وما يعتريها من تغيرات وأحداث وظروف وظواهر تتعلق بالبيئة المحيطة.[١]
أنواع المسرح
تتعدد أنواع المسرح حسب المحتوى الذي تقدّمه المسرحية، وفي ذلك ينقسم هذا الفن إلى أنواع متعددة تمتاز كلّ منها بنمط خاص من المواضيع التي تدور في فلكها، ومن تلك الأنواع يمكن الحديث عن المسرح التراجيدي والدراما الجادّة كنوعٍ أول من أنواع المسرح.
في هذا النوع من التمثيل المسرحي يقوم البطل بأعمال تمثل القوّة العظيمة أو المثل الأعلى، ثم في لحظة واحدة تنقلب المفاهيم ليحدث سقوط يسبب له التغير الجذري في أمر من أمور حياته، ويكون سبب ذلك التغير إمّا لأجل الظروف أو لقدرة إلهيّة تقلبُ الموازين، وتتمثل أحيانًا تلك التغيرات بحصوله على ثروة مثلًا، أو اكتشاف حل لغز لطالما تمنى معرفته، وفي هذا النوع من التراجيديا يحتّم أرسطو وجود خطأ ما عند البطل، أو انكشاف نقص أو عيب فيه ليغيّر ذلك من أقدارِهِ.
أما النوع الثاني فهو المسرح الكوميدي والدراما السوداء، وفي هذا النوع من المسرح يكون الصراع بين الشخصيات هادفًا إلى رسم الابتسامة على وجه الجمهور من خلال محاكاة المواقف المضحكة في الحياة اليومية، فالكوميديا تهدف إلى الترفيه، وتنتهي تلك الصراعات بنهاية سعيدة غالبًا، لأنها تتصف ببيان مشاعر مبالغ فيها بين الشخصيات، والهدف منها هو الفكاهة والتسلية.
في مسرح العرائس يُلاحَظُ اختلافُ هذا النوع من المسرحيات، لأنّ أبطاله هم الدّمى، يقوم الشخصُ السؤول عن هذه المهمة بتحريك الدمى لتتناسب مع الموقف الذي تمثله، كما يغير نبرة صوته لتمثل كل شخصية بمفردها، ويكون هذا النوع من التمثيل للأطفال بغرضٍ هادفٍ ينمّي مهارات الخيال واللغة لديهم من خلال الحوار، كما يُستخدم في الوقت الحالي في أساليب التعليم الحديث بهدف إيصال المعلومة للطفل بشكل أكثر قربًا من مستوى نضجه الفكري والعقلي، وأكثر تناسبًا مع الأشياء التي يرغب في مشاهدتها.
يعد النوع الأخير هو المسرح الغنائي "الأوبرا"، والذي تتسم معظم مسرحياته بالدوران حول محورين أساسيّين هما: الغناء والموسيقى، فيكاد يكونُ الحوارُ مقتصرًا على بعض الجمل القصيرة، ومعتمدًا على الموسيقى في تأدية وظيفته ومغزاه، ويشمل هذا النوع الرقص الجماعي وفن الباليه حين تؤدّى العروض ضمن سياق مَسرحي.
قد برع في هذا الفن العديد من الأدباء والكُتّاب المسرحيّين، أهمّهم شكسبير الذي درس أدب عمالقةِ الإغريق، وتأثر بكتاباتهم واستنبط منها قواعد وآراء تبنّاها في هذا المجال، لا سيما "مأساة أوديب" لسوفوكليس، كما برعَ في كتابة المسرحيّات الفيلسوف أرسطو، فقد كتب كتاب "الملهاة" والعديد من المسرحيات التي لم يبقَ إلا القليل منها، ولا بد من ذكر بريخت أيضًا في هذا المجال فهو كاتب وشاعر ومخرج مسرحي، كان مشهورًا بما يسمى بالمسرح الملحمي.
يعدّ تشيخوف أيضًا من المسرحيّين الروسيّين الذين اشتهروا بكتابة المأساة الطويلة، ومما يزيد تميُّز تشيخوف عن غيره في كتابة العمل المسرحي هو قدرته العالية على الغوص في أعماق الشخصيات وتحليلاتها النفسية، ويظهر ذلك على نحو واضح في عمله "بستان الكرز"، كما اشتهر يوهان غوته في الكتابة والتأليف، ومن أشهر أعماله "آلام فرتر"، و"فاوست". وقد استمرّ المسرح في تطوّره حتى الوقت الحاليّ، فمن الكُتّاب المعاصرين يُمكن ذِكر جان تارديو صاحب كتاب "مسرح الغرفة"، والذي يشتمل على عدد من المسرحيات التي كتبها.
أهمية فن المسرح
تتجلى أهمية المسرح الكبرى في أنّه من الفنون التي تؤثر في الآخر، بل هو من أقرب الوسائل التي يعتمد فيها الكاتب على إيصال صوته للمجتمع بمختلف طبقاته، فالعرض المسرحي يكون موجَّهًا للمثقّفين والعوام من مختلف الثقافات والأعمار، ولذلك يتّخذ هذا الشكل من التعبير أهمّيةً قصوى في تغذية فكر معين أو ضمورِهِ، وتعزيز نوع من الغايات أو إخمادها من خلال تقريب ذلك الفكر وتحسينِهِ في عين المشاهد أو تقبيحِهِ والتنفير منه.
يمكن القول إنّ أهداف المسرح كانت تعتمدُ في بداية نشأتها على الترويحِ عن النفسِ ببثِّ شكواها للآخرين، أو صنعِ الكوميديا التي تُضحكُ الناس فتخفف من همومهم وآلامهم، ولكنها مع تطوّر أدواتها وتبَلوُرِها في صميم ثقافات الشعوب أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من تكوين الثقافة المجتمعية لمجموعة من الناس، فأصبحت المسرحيات التاريخية تُتيح للمشاهد أن يتعرّف على التاريخ من وجهة نظر الكاتب، والمسرحيات السياسية تقدّم للمشاهد رأيًا سياسيًّا معيَّنًا يعبّر عن رؤية الكاتب لزاوية الأحداث والشعوب، كما أنّ المسرحيات الكوميدية تجسّد فهم الكاتب للبيئة الاجتماعية التي يصوّرها.
من هنا انطلقت التغيّرات في المجتمعات بناءً على تقليد كل مجتمع لغيره من الشعوب، بحثًا عن الحياة الأكثر تلاؤمًا مع البُنية الفكرية التي زرعتها البيئة المحيطة من كلّ حدبٍ وصوب. تعملُ مكوّنات المسرح وعناصره على منح العمل المسرحي قدرته على النجاح والشهرة والتألق، ففي ميدان الإخراج لا بدّ أن ينتقي صاحب هذه المهمّة كل تفصيل من تفاصيل العمل المسرحي بعناية فائقة، ويوظّفه توظيفًا مناسبًا ليخدم الفكرة التي يسعى العمل الفني إلى إيصالها، فعناصر الفنّ المسرحي هي كل ما يمكن أن تقع عليه عين المشاهد الذي يتابع الأحداث، وكل عنصر مهما كان بسيطًا يؤثّر تأثيرًا بالغًا في النص والحوار والمشهد والعمل بشكل كامل.
تنقسم عناصر العمل المسرحي إلى النص الذي يكتبهُ المؤلف، والحبكة التي من خلالها تتشابك الأحداث لتشكل قصّة شيّقة عبر التتابع الزماني والمكاني، والشخصيات التي تؤدي الأدوار جميعها من خلال تجسيد المعاني التي يريدها الكاتب في شخصية بشرية، والعقدة التي تتضمّن تشابك الحدث إلى درجة التأزّم والوصول إلى الذروة، والجمهور الذي لا بد أن يكون الموجِّه الأول لأي عمل لأنّه المستقبِل للتأثير والمقصود بالتأثُّر.
ثمَّ الأسلوب المسرحي الذي يُظهر فنيّة عمل الممثلين المسرحيين، والمكان والزمان اللذان تجري فيهما أحداث القصة، والحل حين تُختَم القصة بنهاية معينة، واللغة التي من خلالها تبدو قدرة الكاتب على استعمال الكلمات المناسبة والصياغة المنسجمة الملائمة للموضوع الذي يتحدث عنه، كما تعدّ اللغة العنصر الأكبر في نجاح العمل المسرحي لأنه نوع من أنواع الأدب الذي يبرز فيه الجانب البلاغي.
يمكنُ القول إنّ المسرح حين يعكس الواقع يقدّم بعض الحلول للمشكلات التي تعاني منها بعض طبقات المجتمع، كما أنه يسهم في مشاركة المتألمين بآلامهم والتعبير عن المؤازرة مع مشاعرهم، كما أنّ الدور المهمّ والأساسيّ بالنسبة للعمل المسرحي هو زيادة الوعي بين أفراد المجتمع، حيثُ يستطيع كل فرد من الأفراد أن يكون على درايةٍ بما يجري حوله من مُجرَيات على نحو أكثر عُمقًا واتّساعًا، فللمسرح آثار عظيمة تربويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، مما دفع بعضهم للقول إنّ "المسرح أبو الفنون".[٢]
المراجع
- ↑ "مسرح المعرفة "، المعرفة ، اطّلع عليه بتاريخ 21/01/2021م. بتصرّف.
- ↑ محمد مندور ، المسرح، صفحة 1924 - 1926. بتصرّف.