محتويات
المطالعة
شغلت المُطالعة عقول الأدباء والمُفكّرين، وصنعت منهم عمالقة يُخلّدون اسمهم في التاريخ، فكانت كالمَدَد الذي يتغذّى العقل منه، فقد تجد من الأدباء من كان يمضي ليلة كاملة في المكتبة، أو عند الورّاقين يُطالِع الكتب دون كلل أو ملل، ويجوب العالم وهو جالس في مكانه يفتح الآفاق غير النّهائية في شتّى العلوم والمعارف، ويدخل في حوار مع كلّ من يقرأ له؛ إذًا فإنّ القراءة حياة.
حتى نعرف الفرق بين المُطالعة والقراءة لا بُدّ من تعريف كلٍّ منهما؛ فالمُطالعة: هي أن تأخذ نظرةً سريعة في كتابٍ ما فيتكوّن لديك خلفيّة عن هذا الكتاب وتتعرّف بشكل سريع على ما يحتويه من معارف وعناوين رئيسة وفرعيّة، أمّا القراءة؛ فهي أكثر عمقًا وهي لا تعني أن تقرأ كلّ حرف في هذا أو ذاك الكتاب وإنّما أيضًا أن تقف على أفكاره مُتأمّلًا مفكّرًا أو حتى ناقدًا له، وبهذا يتشكّل شيء شبيه بالحوار والنقاش الثاني بين القارئ والكاتب، ويُصبح قادرًا على أن يمتلك ذخيرةً معرفية يستطيع من خلالها أن يكون كاتبًا مُحترفًا مستقبليًّا، ويقول فريد الدّين العطّار:[١]
فإن تقرأ علوم الناس ألفًا
:::بلا عشقٍ فلا حصّلت حرفًا
المطالعة سفر عبر الزمن
إنّ الشخص الذي يُداوم على المُطالعة كالرّحالة الذي يجوب أرجاء العالم ويُسافر من زمن إلى زمن مُتنقّلًا بين العصور والأماكن والبقاع في العالم، دون أن يُغادر المكان الذي يقرأ فيه، وبذلك ينهل من بحور العلم في كلّ الأمكنة والأزمنة.
هناك العديد من الأدباء المُعاصرين الذين استطاعوا مُناقشة أكثر المسائل تعقيدًا في تاريخ الفكر البشريّ، ومثال ذلك نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب وروايته الشّهيرة أولاد حارتنا، ناقش من خلالها جدليّة الخير والشر والعلاقة بين الدين والعلم، وهي إشكالات تمّ استحداثها في الفكر العربيّ المُعاصر بعد أن ناقشها أفلاطون وأرسطو في الحقبة الإغريقية القديمة؛ وبذلك نجح نجيب محفوظ أن يُناقش بجهد متواصل فلاسفة مرّت قرون على موتهم دون أن يُغادر أحياء القاهرة، وعلى إثر ذلك حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، ولم يكن يكفّ عن التنقّل بين رفوف المكتبات وأزقّتها في أحياء القاهرة، مُتجوّلًا بين عقول المُفكّرين والفلاسفة.
من فوائد القراءة أنّها تجعل المرء يشغل وقته بما هو مُفيد، قال ابن الجوزيّ في ترجمه الحافظ أبي علاء الهمذاني: "وقد بلغني أنّه رأى في المنام في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كُتب لا تُحَد وهو مشتغلٌ بمطالعتها، فقيل له: ما هذه الكتب؟ قال: سألتُ الله تعالى أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدّنيا فأعطاني".
وقد ذكر العيدروس سيرة الفقيه أبي الفضل الخضيري، وكان مولده بين المغرب ليلة الأحد مُستهلّ رجب سنة بالقاهرة، وكان يُلقّب بابن الكُتب؛ لأنّ أباه كان من أهل العلم، قد احتاج إلى مُطالعة كتاب، فأمر أمّه أن تأتيه بالكتاب من بين كُتُبه، فذهبت لتأتي به فجاءها المَخاض وهي بين الكُتب.
المطالعة مفتاح المعرفة
من البدهيّ أن تجعل المُطالعة من الإنسان كائنًا عارفًا بكلّ ما يجول في خواطر العلماء والمٌفكّرين، واعيًا بما يدور حوله من أحداث، أو ماضيًا في الزّمن الغابر والتاريخ وفي استطاعته أن يتنبّأ بما سيحصل في المستقبل، فبذلك يكون عرف الماضي وعرف الحاضر ويتنبّأ بالمستقبل.
من فوائد المُطالعة على الصّعيد الفرديّ أو الشخصيّ أنّها تُسهم في صقل شخصيّة الفرد وتزيد من ثقته بنفسه، فإنّ ملكة الفكر والتأمُّل التي انفرد بها الإنسان وحده دون سائر الكائنات تُحتّم عليه أن يقرأ ويُطالع، ولمّا كان جوهر الوجود البشري ينقسم إلى قسمين هما: قسم جسديّ وقسم عقليّ، فإن القسم الجسديّ يتغذّى بالمأكل والمشرب، والقسم العقليّ لا يتغذّى إلّا من خلال القراءة، إنّ القراءة أشبه بالتنفُّس وهي وظيفة أساسيّة في الحياة، كأنّها نافذة إن فتحتها أطلّت عليك نوافذ عدّة.
ما يُميّز الانسان هو العقل كما اتّفق على ذلك أغلب المُفكّرين على مدار التاريخ، فإنّه لا يُمكن إنارته إلّا من خلال القراءة، ولا يُمكن أن يكون عقلًا مُتقدًا إلّا إذا طالع وقرأ، وتُفيد كلمة العقل بالرّبط بين الأفكار وبين المفاهيم، وتظلّ عمليّة الفكر محدودة طالما أنّ الإنسان لم ينفتح على مُختلف الحضارات ومختلف الأزمنة، ويكون الانفتاح من خلال القراءة والمُطالعة، ولا شكّ بأنّ هذا ليس بالأمر الهيّن؛ فإنّه يحتاج إلى الجُهد والصّبر، وقد عُرف الكثير من العلماء والفلاسفة والمُفكّرين على مدار التاريخ، سواء في الفكر العربيّ أم الغربيّ بأنّهم كانوا صَبورين على العلم والقراءة، وفي تاريخنا الكثير من العلماء الذين أكّدوا على أنّ قيمة الإنسان لا تكون بالجاه والمال وإنّما بما يمتلكه من معرفة، ومثال هذا قول الإمام الشافعيّ:
كم يرفع العلم أشخاصًا إلى رتب
- ويخفض الجهل أشرافًا بلا أدب
من أبرز الشخصيات الأدبيّة التي كان للقراءة دور كبير في حياتها وتعدّ بمثابة موسوعة؛ هي شخصيّة الجاحظ وهو أديب ومُفكّر المُعتزلة الذي خلّف لنا عددًا مَهولًا من المُصنّفات الفكريّة في الأدب والفلسفة والصداقة والجغرافيا والتاريخ وعلم الأنساب، حتّى أنّه تُوفّي وهو يُحاول أن يلتقط كتابًا من أحد رفوف مكتبته، فانهالت عليه الرفوف فسقط مغشيًّا عليه، ولُقّب بشهيد الكتب، وصفه أبو الحسن الفروزيّ قائلًا فيه: "وكان إذا خلا في كتاب أعطاه حقّه".
من استشهادات القراءة أنّ الجاحظ قد ألحّ على التمسُّك بالكتاب بقوله: "والكتاب هو الذي يُطيعك باللّيل كطاعته بالنّهار، ويُطيعك في السّفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السّهر.[٢]
المعرفة أساس بناء الحضارة
إنّ الحضارة تتشكّل نتيجة لتراكُم عمليّة البحث والمعرفة في المجتمع، وبذلك تكون القراءة من الأُسُس التي تقوم عليها الحضارة وترفد عجلتها للأمام، وتُسهم في عملية التثقّف والانفتاح على باقي الحضارات، ومعرفة التراث البشريّ والفكريّ الذي خلّفته الحضارات الغابرة في مختلف المجالات، وبذلك يستطيع القارئ أن يُوظّف كلّ هذا الكمّ والنّوع من المعارف لتطوير المجتمع، وهذا على الصعيد الجمعيّ.
مثلًا؛ يُمكن أن نطّلع على عصر النهضة في أوروبا ونعرف كيف بدأ، من خلال الاطّلاع على مُؤلّفات ابن رشد، فإذا كانت الحضارة الغربيّة وما تلاها من الحداثة في الحضارة الغربية لم تنشأ إلّا منذ أن بدأ الغرب بالاطّلاع على مُؤلّفات ابن رشد بالدّرجة الأولى، وذلك من خلال المُداومة على القراءة والسّهر لترجمتها.
بعد أن بدأت عصور النهضة بفترة وجيزة بدأ التنوير في أوروبا، وهو يقوم على سيطرة العقل أو مركزيّة العقل في الخطاب الأوروبيّ، وقدرة الإنسان على أن يُفكّر ويطّلع ويقرأ، ويعتمد على نفسه دون أن يعتمد على أفكار جاهزة، يبدأ التّنوير في بريطانيا مع الفيلسوف جون لوك، أو رسالة في التسامح، ثم مرورًا بفرنسا مع فولتير وغيره من الفلاسفة، أخيرًا إلى ألمانيا كان على رأسهم كانطْ ومقالاته: ما هي الأنوار، والتي تضمّنت إجابة صريحة على هذا السؤال وقوله إنّ الأنوار هي الجُرأة على استخدام العقل.
كذلك الحضارة العربيّة في العصور الذهبيّة كانت تهتمّ بشكل كبير في سُبل تحصيل المعرفة، فتُنفق الكثير لأجل ترجمة الكتب عن اللّغات الأخرى، حتّى أنّه ذُكِر لنا أنّ الخليفة العباسيّ المأمون كان يعطي وزن الكتاب الذي يُترجم ذهبًا لمن يقوم بترجمته إلى العربية حتى يستفيد العرب من علوم باقي الأمم.
يقودُنا كلّ هذا لسؤال: لماذا نقرأ، وما أهمية القراءة بالنّسبة للمجتمع؟ إنّ المجتمع[١]الذي يتسلّح بالقراءة يكون قادرًا على مُحاربة الجهل والأميّة والفساد والتخلُّف، فمن المعروف أنّ الدول المُتقدّمة تنتشر فيها المكتبات بين عموم النّاس في الشّوارع وفي الأحياء, وأيضًا عن طريق البحث العلميّ تجدها تُكرّس جزءًا كبيرًا من موازنتها فقط لتأسيس مؤسّسات تعليميّة وثقافيّة وعلميّة ومراكز بحث علميّ، كلّ هذا من أجل خدمة المُجتمع.
من أثر القراءة على المجتمع أنّه يُصبح أكثر تحضُّرًا، كما أنّ هذه العمليّة تتطلّب تعاوُنًا، ذلك لاشتراك عدّة أطراف؛ فللأسرة دور في غرس حبّ المُطالعة في نفوس أبنائهم، من خلال توفير مكتبة في كلّ منزل والحثّ على القراءة؛ لأنّ القراءة حياة والكتاب صديق، كما يقول المُتنبّي:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ
- وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ
إنّ دور الدّولة في تشجيع على القراءة والحثّ عليها، يكون من خلال توفير الحوافز الماديّة والمعنويّة وإنشاء المعارض المُختلفة، وتأسيس مُؤسّسات تُعنى بالكتاب وتوفير الكُتب، وأيضًا للمدرسة دور كبير في التّشجيع على القراءة، فمن الطفولة تستطيع تنشئة الأطفال في بيئة مدرسيّة مُدرِكة لأهميّة الكتاب والمُطالعة، تُجيب على سؤال لماذا نقرأ، من خلال إيضاح ضرورة المُطالعة للفرد والمجتمع.