حين غابت شمس الصحراء
عندما تغيب الشمس تأخذ معها الضوء والنور، ويبدأ لونها يقتم شيئًا فشيئًا، ويتحول إلى الأرجواني حتى تغيب عن الأنظار، وأروع منظر لغروب الشمس يكون عند النظر إليها وهي تغيب خلف رمال الصحراء، فتعكس على الرمال لونًا قرمزيًا يبعث الدفء، ويُفجّر العواطف الدافئة والحنونة، هكذا قال الشاعر خليل مطران في وصف غروب الشمس:[١]
يا لَلْغُرُوبِ وَمَا بِهِ مِنْ عِبْرَةٍ
- للِمُسْتَهَامِ وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي
أَوَلَيْسَ نَزْعًا لِلنَّهَارِ وَصَرْعَةً
- لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ
تغرب الشمس فتجتمع الصحراء والجمال، تُصبح رمال الصحراء ذرات من الذهب الصافي، تتماوج أمام عيني الناظر متمايلة، كأنّها فتاة كاعبة تتخايل مُتباهية بحسنها وجمالها الفاتن، رمال الصحراء تزداد إشراقًا، وتصير مصدرًا للحب واالراحة والسعادة، توزعها على كل من يتأمل هذا المنظر البديع المهيب ساعة الغروب، وقد تذكّر البعض بلحظات الوداع، فكما تودّع هذه الرمال الشمس وهي تغيب خلفها، قد يتذكر بعضهم وداع الأحبة وفراقهم.
إذا ما طار النظر إلى الأفق الواسع والسماء الشاسعة في لحظة غروب الشمس، تظهر الألوان التي تخلب الألباب وتأسر العقول وتذهل لها الأبصار، فلا تدري السماء أهي انعكاس لرمال الصحراء ولمعانها الفتّان، أم هي صفحة تتوزع عليها أشلاء أشعة الشمس التي تلوّح بيدها معلنة غروبها واختفاءها، فإذا بها مزيج من الرمال وألوان الغروب فكأنها لوحة فنية عصية على التكرار بيد فنان مهما طاول بإبداعه عنان السماء.
كم هو رائع هذا المنظر، يذكّر الإنسان بأن يكون جيدًا مع كل من حوله حتى آخر لحظة في تواجده، فالشمس حتى في آخر لحظاتها في كل يوم، تترك وراءها دفئًا، وتوزع حُبًا وطمأنينة، ولسان حالها يقول: ابقوا بسلام، واحتفظوا في قلوبكم ببقية من حب، وبقية من نور ودفء، ريثما أعود لكم غدًا، وأملأ قلوبكم بالحب والدفء والسلام مرة أخرى، ولكل ناظر لهذا المنظر أن يتخيل خطابًا خاصّا من الشمس له ولقلبه.
إنه غروب الشمس، سواء رآه الناظر وداعًا مؤقتًا على أمل لقاء قريب، أو رآه كما رأى الشاعر خليل مطران هزيمة ومصرعًا لهذه الشمس بعظمتها وبهائها وشعاعها أمام الظلام الداكن والدامس، إنه الغروب نعم، إنه الضوء النادر الجميل الذي يزين السماء كل يوم، وهو المبهر المذهل مع منظر الصحراء ورمالها وتفاصيلها كلها.
إن جمال الصحراء يزداد بريقًا ويرقى مرتبة في كل يوم لحظة الغروب، وكأن الشمس تُضفي عليه في كل يوم مسحة من جمال، وقبسًا من نورها الفتان لتبقى الصحراء متألقة على الدوام، فلا حرم الله البشرية من هذا النور الساطع، ولا حرم الناس من التمعن في إبداع الخالق وعظمته في خلق الكائنات كلها، وكيف تدغدغ مشاعرهم وتداعب أفكارهم بهدوء وسلام.
رمال الصحراء سحرٌ آخر
البيئة الصحراوية مملوءة بالتفاصيل، تفاصيل تتميز بها الصحراء عن غيرها من الأماكن، مثل حيوانات الصحراءوالتي خلقها الله بطبيعة تتناسب مع جو الصحراء، ولعل أشهرها جمال الصحراء والتي تُلقب بسفينة الصحراء، إضافة إلى نباتات الصحراء، ويبقى المكون الطاغي والواضح مثل عين الشمس: رمال الصحراء، والتي تفتح أفقًا واسعًا للناظر إليها في التفكير والتأمل والتخيل. قال محمود درويش:[٢]
- إنَّه الرملُ
- مساحاتٌ من الأفكار و المرأةِ
- فلنذهب مع الإيقاع حتى حتفنا
قد أصاب محمود درويش الحقيقة في لبّها عندما قال: إنه الرمل مساحات من الأفكار والمرأة. ذلك الرمل مساحات ومساحات، يمكن أن يَفرد فيها المرء أفكاره، ويبعثرها ويرتبها، ويعيد تنظيمها كما يشاء، فهو ممتد إلى آخر نقطة ينظر إليها الإنسان، واسع سعة البحر، ناعم نعومة الحرير، دافئ دفء حضن الأم، صامت صمت شيخ وقور جليل، إليه تُبثّ الأحزان والأوجاع، وفيه تُلقى هموم الحياة، وتُشكى آلام الفراق والبعد عن المحبوبة.
رمال ذهبية زاهية، تتماوج بشكل فني أبدعه الخالق، ورتبه بطريقة لا يقوى أكبر فنان، ولا أعظم مبدع على ترتيبها بهذا الشكل، وما ذلك إلا من عظيم قدرة الله تعالى، في تماوجها انسياب، وفي لمعانها اطمئنان، وفي صمتها سلام، لا تشوبها شائبة، ولا تعكّر هدوءها علامات الأقدام التي تسير عليها، فهي تحافظ على بريقها وتألقها في جميع الظروف والأحوال.
كم حملت هذه الرمال من خيول تعدو إلى المعارك، وكم سمعت أشعارًا ارتجلها أعظم الشعراء من الجاهلية على رمالها، مستلهمين من دفئها الكثير من الحب والحنين والشوق للمحبوبة وصوتها وديارها، فما تلك الأبيات والمقدمات الطللية والغزلية إلى ممّا عكسته الرمال من حب وشوق على قلوب المارين فوقها، وكأن في كل وطأة قدم لهم على ترابها، تتسرب حبات الرمل رويدًا رويدًا في عروقهم، لتبعث كل هذا الحب والدفء.
حتى إن النبات الصحراوي الذي ينشأ في هذه البيئة الجافة يتناسب كل التناسب في مواصفاته معها، ومن أشهر النباتات الصبار، فهو الذي يتحمل العطش والجفاف والظروف القاسية في الصحراء، وفي الوقت نفسه هو ملجأ لكثير من الطيور الصحراوية، إذ تحتمي به من أعدائها، وكأن حاله يقول لكل إنسان: عليك أن تكون معطاءً حتى وأنت في أعتى الظروف وأصعبها، كن ملاذًا آمنًا لتنسى آلامك وهمومك.
هذه النباتات وتلك الرمال، تملأ الصحراء قيمًا عميقة لا بد أن يفقهها كل حذق متبصر بمخلوقات الله وعظيم إبداعه في ما خلق، فلا قيمة للنظر دون التفكر، ولا للعلم دون التبحر، فلنتفكر ولنتبحر في أسرار الصحراء وجمالها وانعكاساتها في نفوسنا، ولنزرع حبّها في قلوب الأجيال القادمة، ولنتبعد عن تصويرها بشكل سلبي يؤذيها ويقلل من شأنها وأهميتها في الحياة.
النجوم تلمع في سماء الصحراء
النجوم في كل حالتها وفي جميع أحوالها وفي كل مكان يُنظر إليها تعطي بارقة من أمل وقبسًا من دفء، على صغر حجمها وبُعد مكانها، فكيف إذا كانت في سماء الصحراء، وإذا كان الناظر إليها يتوسد الرمال النعمة، ويمعن النظر فيها. قال أحد الشعراء:
كأن بياضَ النجم في خضرة الدُجى
- تفتحَ وردًا بينَ رندٍ وعبقرِ
تتلألئ نجوم الليل في سماء الصحراء، وتبرق بلون ذهبي ناصع في عتمة الليل، منعكسة على الصحراء ببريق خفيّ لا يحسه إلى مرهف الحس، رقيق الطبع، حنون القلب، وفي كل ومضة من نجمة: همسة من حب، ورعشة من شوق، ولربما دمعة من غائب، وحرقة قلب مشتاق لأهله وأحبابه، فيها رسائل حب، ورسائل وداع، ورسائل اشتياق، حمّلها إياها البشر الناظرين إليها.
سحر النجوم في سماء الصحراء، لا يقل أبدًا عن سحر الورود الربيعية النضرة في بستان مزهر مدبّج بأبهى ألوان الربيع، وهي نجوم بارزة ظاهرة بوضوح، كما هو وضوح نجم الشمال وظهوره، وذلك لما بين السماء والصحراء من التحام والتقاء، فتجعل الناظر يشعر بقربها، ويراها بوضوح كبير، وبلمعانها تضيء عتمة قلوب منطفئة تعبًا وهمًا وحزنًا، وتنير درب من ضلوا عن الصواب والرُشد.
ترى الليل في الصحراء ساكنًا هادئًا، وكأنه يراقب الناس بصمت، يتركهم يبثّون ما بدواخلهم، وما ملأه النهار في قلوبهم وعقولهم من متاعب ومشاق وهو ساكن، فيضفي بهذا السكون وقارًا وجلالًا ، سلامًا واطمئنانًا، حبًا ودفئًا، حتى لا يشوب هذا السكون، وذلك الصمت ما هو إلا بريق النجوم في السماء، الذي يجعل سكون الليل في الصحراء أكثر إرهافًا للأحاسيس ومداعبة للعواطف.
صحراء وليل ونجوم، بمجرد جمع هذه الكلمات يشعر الإنسان بالراحة، فكيف إن عاشها حقيقة، كيف إن لامس هذا الشعور في الواقع، ستُفتح له آفاق من التفكير، سينسى همومه ستتلاشى وآلامه، ستتبدد كل مؤرقات الحياة التي تشغل باله، وذلك لما في الصحراء والسماء من أفق بعيد، وما في النجوم من ضوء فريد، فيشعر الإنسان أنه في قصر مشيد متلألئ بالأنوار الصفراء البراقة.
ظُلمٌ أن يظن الناس أن الصحراء هي مكان قاحل لا حياة فيها ولا ماء، وأنّها سبب الحر والعطش والجوع والضياع، وأنها منشأ الأفاعي والحيوانات الضارية، ظلم لهذا الجمال أن تُزرع في العقول عنه هذه الأفكار البائسة، في الصحراء رونق وجمال كما هو جمال الربيع في جنّة غناء، وكما هو جمال الخريف الذي يكسو الأرض أوراقًا ذهبية، فقط على الناس أن يروا هذا الجمال ويعيشوه حتى يتعلقوا به.
ما إن يتعلق الإنسان بجمال الصحراء حتى يتمنى تكرار هذا الأمر، فكثيرًا ما يحتاج الإنسان إلى العزلة والهدوء والاطمئنان، وهذا كله موجود في الصحراء ورمالها، وفي ليل الصحراء ونجومه، في غروب شمس الصحراء ودفئها، فلا الجمال حكر على الربيع، ولا الهدوء محصور في الحدائق، بل هو جمال موزع في كل مكان، وعلى كل بقعة خلقها الله تعالى، وما على البشر إلا أن يلتمسوا الجمال ويفهموه.
لقراءة المزيد من الموضوعات ذات الصّلة، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: تعبير عن الصحراء.
المراجع
- ↑ "المساء خليل مطران"، المعرفة، اطّلع عليه بتاريخ 29/12/2020.
- ↑ "قصيدة الرمل"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 29/12/2020.