ماذا أعني بعبارة لغتي هويتي؟
لقد طرقت أسماع النّاس كثيرًا منذ فترة وجيزة عبارة لغتي هويتي، حتى صارت تُردد كأنّها أهزوجة من الأهازيج الصّباحيّة التي يُرددها الأولاد في مدارسهم مع كل إشراقة شمس، ولكن تُرى ما معنى لغتي هويتي وكيف تكون لغة الإنسان هويّته، ومن هنا ينطلق الإنسان إلى فكرة واضحة المعنى، وهي أنَّ لغة الإنسان هي محور وجوده على هذه الأرض فمن يكون الإنسان دون لغته أو هويته؟ إنَّ اللسان هو هوية الإنسان فلو تكلّم في العربية لعرّف لسانه ولغته عن أصله وعرقه وربما حتى دولته، ومهما اجتهد المرء في إخفاء أصله عبر الملابس والأزياء والثياب إلا أنّ لكنة لسانه ولون بشرته ستكون فاضحة له.
كيف للعربيّ أن يقف ويقول عن نفسه أنا عربي ويعتز بأرضه وأصله وتاريخه وهو غافلٌ عن أهم مقومٍ من مقومات وجوده على هذه الأرض وهي اللغة، اللغة العربية التي باتت أشبه بامرأة عجوز لا تنتهي من الطعنة الأولى حتى تأتيها الثانية فترديها على وجهها، والعجيب في ذلك الأمر أنّها لا تتلقى طعناتها إلا من أولادها حتى باتوا يعتارون بها وبشكلها فترى الواحد منهم لمّا يُريد أن يرسل رسالة للآخر ليلفت انتباهه إلى ثقافته يبدأ بإدخال كلمة عربية في كلامه وعشرات من الفرنسية أو الإنجليزية، فبات العربي لا يستطيع الفهم على أخيه، ويا للعار لو قال له تكلّم العربية فأنا لا أفهم عليك! حتّى يتظاهر الأخير أنّه يفهم على كامل كلامه خشية من الوقوع في ذلك الإحراج.
تُرى أين سيجد العربيّ هويته بعد أن فقدها في ممرات الحضارة التي يدّعيها النَّاس، ولم يكتف العرب من قتل لغتهم بل تطاول بهم الأمر حتى يقتلوا أسماء أبنائهم العربية فيُجهزوا عليها ويقضوا على فتاتها، وصار يأوون إلى الأسماء الدخيلة عليهم فيسمون جوليا وجورج وغيرها من الأسماء التي تسلخهم من هويتهم وجنسيتهم، أين الأسماء التي نعتز بها مثل خالد ومؤيد وتلك الأسماء التي لها باع طويل في بناء حضاراتنا وتاريخنا، لقد ألبسنا الأجنبي ثوب الغرابة في لغتنا حتّى بات من يستعمل الألفاظ العربية القديمة -على حدّ زعمهم- يُرمق بنظرات ملؤها التساؤل والاستغراب.
اللغة هي هوية الإنسان عندما يعلم في دواخله أنَّه ذليل بلا لغته ممتهن بلا ماضيه، أين الزمان الذي كان يُقيم فيه الشعراء الدول ويهدمونها، وما ذلك ببعيد عندما تدور الذاكرة حول ابن زيدون لمَّا ناصر ابن جوهر فأقام دولته، أين ذلك الزمان الذي كانت تُعقد فيه المواثيق وتنتهي فيه الحروب من أجل بيت شعر قيل هدأ النفوس وطيب القلوب، وما أقسى أن يستمع العربي إلى سؤال بات يتناقله طلبة المدارس فيما بينهم فحواه أن لماذا ندرس اللغة العربية وبماذا تفيدنا يا ترى؟
لهذا أحب لغتي!
لو تجرأ أحد وسأل السؤال المعهود وهو: لماذا يجب أن أحب اللغة العربية؟ فهل سيجد مجيبًا يحمل من أمتعة المفردات ما يُعين على الإجابة عن ذلك السؤال الذي ما نشأ إلا لضعف الشعور تجاه الذات الشخصية قبل التاريخ العربي، اللغة العربية هي اللغة التي تكلّم بها بداية آدم -عليه السلام- لمَّا علّمه الله سبحانه كل شيء، وبعد آدم تكلم بها نوح -عليه السلام- ومن ثم إسماعيل -عليه السلام- وبقي الناس يتناقلونها وهي لغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبها نزل القرآن الكريم من فوق سماوات، وجدير بالمسلم الذي يعلم قداسة القرآن العظيم وأنَّه رسائل الله إلى عبيده أن يعلم لماذا يجب عليه أن يُحب لغته.
لا يُمكن للذي لا يعلم أصول اللغة العربية وصورها البلاغية وقواعدها النحوية أن يستطيع فهم آية واحدة من كتاب ربه جلّ وعلا؟ وهل بات المسلم يستسيغ الانسلاخ عن دينه وقرآن فيتساءل ماذا يجب أن يتعلم لغته أو لماذا يحبها، وبات التّفاخر لا يكون بين الأطفال أو حتى بين أهليهم إلا إذا تعلّم ابنهم وهو في سن الثلاث سنوات أن يعد حتى الرقم العاشر في اللغة الأجنبية، وهو بات يُخطئ تلك الأرقام في اللغة العربي فأي فخر ذاك؟
لقد استطاعت اللغة العربيّة أن تلبس نفس الثوب منذ قديم الزمان وحتى هذه اللحظة، ولم يبلى ذلك الثوب بل هو متجدد تجدد المرتدين له، فلو لبسه الشاعر المجدد لصار ذلك الثوب خلّاقًا إبداعيًّا جميلًا يضج بألوان الحياة ويعلو علو الغمام في جماله وروعته، ولو لبس ذلك الثوب الشاعر القديم لبرز الثوب في هيبة ووقار وجمال قلّ نظيره فيكون ذلك الثوب كالشمس في طلعتها والقمر في ضيائه عندما يكتمل في إحدى ليالي الشهر، اللغة العربية هي ليست فقط وسيلة للتحدث فلو كان ذاك لما وجبت المحبة لها، بل اللغة العربية هي لغة الفن والعصر والحياة وما ضعُفت إلا بضعف أهلها، ولو استردوا قوتهم لقوت وطغت على اللغات الأجنبية المستحدثة.
اللغة العربية هي النبع المعين الذي يستقي الإنسان منه نفسه فيكون لسانه حلوًا عذبًا كتلك اللغة التي اختار أن يكون منها وتكون منه، ولو أراد الإنسان أن يُعبر عن مفهوم واحد لَوَجد مئات الألفاظ التي لها نفس المعنى، حتى ضجّت العربية بجمالها وكثرة ألفاظها وقدرة أيّ ناطق لها على تشكيل صور من الجميل لم يتمكّن الأقدمون من الوصول إليها أو خطّ مثلها، العربية ليست فقط بيتًا من الشعر يُتغنى به بل هي مرتعٌ للإنسان يحيا بين أحضانها فيتزوّد منها كما يتزوّد الطفل الصغير من لبن أمه، هذه هي اللغة العربية هي لغة الحياة ولغة الأمل واللغة التي يفنى الإنسان من أجلها، ويقضي عمره حتى تقف كصبية جميلة لم تختط بعد عمرها العشرين على سطح هذه الأرض.
كيف أعبر عن حبي للغتي؟
إنَّ اللغة العربية لا تنتظر من متحدّثها أن يكتب لها رسائل الغرام، ولا أن يُحاول الشذ عن القاعدة بطباعة بضع من الأبيات الشعرية على الثياب أو حفر بعض من حروف اللغة العربية على الحقائب، إذ إنّ اللغة العربية أعلى من ذلك بكثير، ولا يكون التعبير عن عشقها إلا من خلال العمل لها وبذل الغالي والنفيس من أجلها ومحاولة إعداد جيل قادر على الوقوف في وجه الأشخاص المقللين من قيمتها والمطالبين بحذف القواعد العربية، معللين فعلهم بأنّ العربية ليست كلها قواعد، وكأنّهم يردون على المغالين بالقواعد بهدم أساس اللغة الذي يُوضح المعاني ويجدد المفهوم.
هل يستطيع أحد أن يعبر عن مقدار حبه للغة إلا من خلال ضبطها والمحافظة على إرث الأجداد الذين بذلوا أعمارهم وعيونهم في سبيل المحافظة على العربية وقواعدها وآدابها، وكأنّهم يُسهمون بإنقاذ اللغة إذا محوا قاعدتها، اللغة العربية تحتاج إلى جيل متمكن من أصولها ولا يُمكن التعبير عن عشقها إلا بهذه الطريقة، وحريٌّ بالعربي أن يُنهي كل شهر كتابًا مهما قصر يتمكّن فيه من إتقان أصل من أصول اللغة، حتى إذا جاء الأجنبي يسأل عن اللغة ويعزم على تعلمها لا يجد أن ناطقيها باتوا أجهل منه فيها.
إنَّ الإنسان يعبر عن حبه للغته عندما يأبى أن يتحدّث إلا بها، وذلك ليس معناه أن يعزف الإنسان عن تعلم اللغات الأخرى على العكس من ذلك، فها هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدفع بأحد صحابته ليتعلم لغة اليهود حتى يكون على دراية بكلامهم، ولكن الأصل على الإنسان ألّا يأوي لألفاظ اللغات الأخرى الشحيحة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، بل ولعلها في أحد الأيّام تزيد من جوع متكلميها الذين لا ينتمون إليها، وخير مثال على تمسك أهل اللغة بلغتهم الألمان الذين يُجبرون كلّ من يريد أن يتعامل معهم على تعلم اللغة الألمانية؛ حتى يستطيعوا فهمه، وهم يفهمون الإنجليزية إلا أنّهم يتمسّكون بتراثهم، فحريٌّ بنا نحن المسلمون أن نحافظ على لغتنا التي هي أصل ديننا.
إنَّ اللغة العربية هي أشبه بالبحر الهادئ الذي يحوي في دواخله الدرر الثمينة والجواهر العظيمة ولكنّ ذلك البحر عميق مظلم لا يقوى على دخوله إلا من تسّلح بالسفن القوية، ولا يُخاض البحر من منتصفه بل كل شيءٍ يتم الحصول عليه بالتدريج، وحريٌّ بالإنسان العربي أن يعقد العزم منذ هذه اللحظة فيأتي بكتاب خاصٍّ بلغته يتعلم منه ما جهله فيكون من المتعلمين الذين يحبهم الله ورسوله، وخير مثال على فضل التعلم عندما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فداء أسير بدر أن يعلم عشرة من صبية المسلم القراءة والكتابة، فهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على عظمة تلك اللغة وأهمية تعلمها والمحافظة عليها.
لقراءة المزيد، اخترنا لك هذا المقال: موضوع تعبير عن اللغة العربية.