مهنة النجار
المهنة أمانٌ من الفقر هي عبارة لطالما قالها أجدادنا ورددوها وكرروها على مسامع الأحفاد وتناقلوها جيلًا بعد جيل، وتكثر المهن التي يمكن للإنسان أن ينتقيها لتكون مرافقة له طيلة حياته، ومهنة النجار واحدة من تلك المهن التي قد تلفت الأنظار إليها، والنجارة هي حرفة تهدف إلى تصنيع الأدوات التي يحتاجها الإنسان بشكل يومي في حياته العامة، وهي ليست وليدة العصر على العكس تمامًا إنَّها قديمة قدم الإنسان، وقد تغنّى بها كثير من الشعراء فقال أحدهم فيها:
- يا عمي عمار
- يا أحلى نجَّار
- في يدك الأخشاب
- تتحول أبواب
- تبدع بالمنشار
- ما تحتاج الدار
يحتاج تعلّم مهنة النجارة إلى صبر طويل يُمكِّن الإنسان من تعلُّم تلك المهنة التي تتطلب يدًا حانيةً وذوقًا رفيعًا، فيقف المتدرب على يد خبير من خبراء النجارين ويراقبه كيف يصنع بالخشبة ويقصها ويحفها ثم يُشكِّل منها ما يريد من الأدوات المنزلية أو غيرها، ثم يُعاود المتدرّب إعادة ما رآه على يدي ذلك الخبير ويحاول مرات عديدة وربما لشهور طويلة من أجل أن يكون عمله أخيرًا مُتقنًا.
يعمل النجار في مكان يُطلق عليه اسم المنجرة، ويكون فيه قطع الأخشاب متناثرة هنا وهناك ورائحة الخشب تعبق بالمكان، وأما رائحة الخشب بالنسبة للنجار فتكون كأنها رائحة حضن أمه الحنون في ليلة شتوية باردة كان خائفًا فيها ثم التجأ إلى يديها ليشعر بالأمان، أو كأنَّها رئحة ابنه الغائب في سفره لسنوات طويلة ثم عاد وقبل والده واشتم الوالد رائحة شعره التي لا تشبه في هذا العالم سوى الحب، هذه هي رائحة الخشب بالنسبة لأي عاملٍ فيه، وكثيرًا ما يقضي النجار بين الألواح الخشبية الصماء ليالي طويلة وباردة؛ لأنَّه لا يشعل في منجرته أي مدفأة خوفًا من حريق.
كثيرًا ما يحكي مع نشارة الخشب قصصًا قد لا يجرؤ أن يشي بها لأيٍّ كان، فيبقى الخشب هو الأذن الصماء التي تسمع الأخبار ولا تدلي بها لأيٍّ كان، فيكون كأس الشاي السَّاخن مع الأخشاب هما صديقاه الوفيَّان اللذان لا يخوناه على الإطلاق، وقد يتساءل كثير من النَّاس عن فوائد النجارة للمجتمع، وما هي الخدمات التي تقدمها، ولو تأمل النَّاظر حوله في الفوائد التي تقدمها له مهنة النجارة لوجد أنَّها حرفة الحياة، فأبسط الأشياء تصنع من الخشب كالآرائك والأبواب وأدوات المطبخ التي تحتاجها كل سيدة في أعمالها، والنوافذ الخشبية التي ما زال كثير من النَّاس يفضلونها على النوافذ المعدنية.
كذلك الأسِرَّة فإنها لا تصنع إلا من الخشب وكثير من النَّاس يفضلون وضع الأرضية من الخشب على تلك الأرضية المصنوعة من الرخام وغيرها؛ إذ عادة ما يكون الخشب رفيق الإنسان وهو الأحنى عليه، نعم لا يزال الخشب تلك المادة المتوفرة بين الجميع التي يحتاجها الكلّ وهو سر الحياة وأيقونته الأولى التي لا بدَّ لكل إنسان من أن يحتك بها سواء كان صانعًا لها أو مستخدمًا.
متطلبات النجار الناجح
تعد النجارة واحدة من أهم المهن اليدوية التي عرفها النَّاس منذ قديم الزمان، وهي مهنة الأنبياء والرسل إذ أوّل شخص عمل فيها هو نبي الله تعالىنوح -عليه السلام- وذلك عندما عصوه قومه ودعا عليهم، أمره الله أن يبني سفينة حتى يركبها والذين آمنوا معه عندما يحدث الطوفان، وبذلك عرف النَّاس مهنة النجارة فكان نوح -عليه السلام- أوَّل من عمل بها، وكثيرًا ما قدَّر الشعراء هذه المهنة فأنشدوا فيها الأبيات التي يحفظها الصغار والكبار ومنها:
- تطلع من كفيك
- خزنًا وأسرّة
- كم أهديت النَّاس
- فرحًا ومسرَّة
- يا عمي النجار
لا بدَّ للنجار النَّاجح من أن يمتاز بالعديد من الصفات التي تُمكّنه من أداء مهنته على أحسن وجه وأفضل طريقة، إذ لا بدَّ له من أن يتمتَّع باللياقة البدنية العالية، بحيث يستطيع أن يحمل الأخشاب الكبير والألواح الضخمة، فإن لم يستطع أن يتعامل مع متاع مهنته الأساسي فلا يمكن له أبدًا الاستمرار في حرفته، كما أنَّه لا بدَّ من امتلاكه دقة ملاحظة عالية؛ وذلك من أجل الانتباه على نفسه من الأدوات الحادة، إذ إنَّه بخطأ صغير قد يعرض حياته للخطر الكبير.
قد يظن بعض النَّاس أنَّ مهنة النجارة هي حرفة عادية لا تتطلّب ميزات عديدة لمتقنها، ولكن على العكس من ذلك إذ لا بدَّ للنجار من أن يمتلك ذوقًا رفيعًا يستطيع من خلاله إخراج العمل من بين يديه وكأنَّه قطعة فنية لا مثيل لها، فمهنة النجار ليست بعيدة عن فن النحت بل كلاهما يصبان في نفس المجرى، كذلك فلا بدَّ للنجار من أن يكون مُتمتعًا بقدرات ذهنية عالية وفطنة كبيرة؛ حتى يستطيع إيجاد الحل للمشكلة التي قد يتعرَّض له وتكلفه الكثير، مثل أن ينكسر معه أحد الأخشاب التي يحتاجها في إتمام عمله وما إلى ذلك من مشكلات العمل التي لا تنتهي.
يتطلب عمل النجار القوة والأمانة والخيال الواسع؛ حتى يستطيع أن يجدد دائمًا في عمله فلا يكون مملًا أو روتينيًّا فينفر منه النَّاس، كذلك فلا بدَّ له من أن يعلم أدوات النجارة كاملة وأن يكون قادرًا على استخدامها وهي: المفك والصمغ والمتر الخشبي والمنضدة الكبيرة والكماشة، ولا بدَّ أن يكون ماهرًا في استعمال كل منها مهارة تعينه على إتقان العمل، النجارة هي من أشرف المهن التي تساعد في صنع الأثاث وتوفير الرفاهية للإنسان عن طريق الكثير من الأدوات التي تعمل على توفير جهده ووقته، ولا بدَّ لكل إنسان من أن يكون متقنًا لعمله ماهرًا بما يصنع حتى يرضي نفسه وجميع الأذواق من حوله.
مهنة النجار والتطور التكنولوجي
منذ قديم الزمان احتاج النَّاس في حياتهم اليومية إلى العديد من الأشياء التي تسهل عليهم من القيام في مهامهم، ولكن في القدم لم يكن عدد النّاس كبيرًا بحيث يكون لكل منهم مهنة -كما الآن- ومن ثم يتبادلون الفائدة بين بعضهم، بل كان يجب على كل إنسان أن يقوم بما يريده من الأشياء بنفسه، ومن ثم برع كل شخص من الأشخاص في أمرٍ ما، فذاك برع في صنع الكراسي الأخشبية والثاني برع في صنع الأدوات الحديدية فنشأت المهن بهذه الطريقة وصار كل ما يبرع الإنسان في عمل ما عدَّ ذلك العمل حرفة له.
من بين تلك الحرف المفيدة التي أحبها النَّاس وأبدعوا فيها مهنة النجارة التي وإن صحَّ التعبير في وصفها تصنع من اللا شيء شيء، ومن الأبيات الذي ذكرها الشعراء وهم يتغنّون بذلك المهنيّ الجميل:
- أدعو ليل نهار
- سرًّا وجهرًا
- يا عمي النجار
- دمت لنا ذخرًا
كأيّ حرفة أخرى أو أي أمرٍ آخر يتطور عبر الزمان، كان للنجارة نصيبها من ذلك التطور وكانت للتكنولوجيا يدًا بيضاء في توفير الوقت والجد على ذلك النجّار المسكين الذي كان يحتاج أسبوعًا كاملًا لأن ينحت رسمة حتى يلصقها بباب يحتاج منه ضعف ذلك الوقت من أجل إنجازه، ولكن التطور التكنولوجي أسهم بشكل كبير في زيادة السرعة في إنتاج العمل الذي من شنه أن يسرع الإنتاج وبالتَّالي يرفع الإنتاج ومن ثم الربح.
من أهم الأدوات الخاصة بالنجارة والتي تطوّع التكنولوجيا لخدمة البشر المنشار الكهربائي الدائري والذي يُسهم في قص الأخشاب بسرعة عالية بدلًا من المنشار اليدوي القديم والذي يصعب استخدامه ويكلف جهدًا عاليًا وكذلك يتطلب قوة بدنية عالية، وتسهم الحفافة الكهربائية في صنفرة الخشب آليًا بدلًا من صنفرته يدويًّا، ويستخدمها النجارون عادةً عندما يعملون على القطع الخشبية الكبيرة لتي تتطلب جهدًا عاليًا، أمَّا لو كانت القطعة صغيرة فيمكن صنفرتها يدويًّا ولا بأس من ذلك.
كذلك فمن الأدوات التي يحتاجها النجار الماهر الحفافة الكهربائية التي تساهم في تنعيم حواف الخشب، وكذلك تزيل الكثير من الزوائد التي يصعب إزالتها يدويًّا، ولا حاجة للمنشار اليدوي بعد الآن إذ يمكن الاستعاضة عنه بالمنشار الكهربائي الذي يعطي نتيجة أفضل من المنشار اليدوي وكذلك أسرع، وأخيرًا إنَّ مهنة لنجارة هي مهنة الإبداع التي يتمكن من خلالها المرء أن ينحت الجمال حتى يكون آية بين يديه يبدع فيه، ويزداد ذلك الإبداع بازدياد دقة الصانع الماهر الذي يحاول أن يسكب روحه في القطعة التي بين يديه.
لا بدَّ لكل صانع من التزام الأخلاقيَّات في مهنته، فلا يغش ولا يكذب ويحاول الالتزام بالوقت الذي قرره في تسليم البضاعة المتفق عليها، وأخيرًا المهنة ليست فقط أمانًا من الفقر ووسيلة لكسب العيش، بل المهنة كرامة يجسد بها الحرفي إنسانيته ويريها للعالم أجمعه.