محتويات
الهجرة النبوية إلى المدينة
أعظم رحلةٍ وأهم حدثٍ، قد شهده العالم الإسلامي عبر التاريخ كانت هجرة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعدما أذن الله تعالى له ولصاحبه بالخروج إليها، لينتقل الإسلام بها من الدعوةِ وحدها إلى إقامة الدولة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار.
إن قصة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مهمةٌ لمن يبحث عن أسمى المعاني والقيم، فهي تعد مثالاً عظيماً لما تحتويه من قصص التضحية والفداء والمحبة والصداقة، إلى جانب التخطيط السليم والتوكل على الله سبحانه في جميع الأمور.
أسبابٌ دعت للهجرة النبوية
بعدما انتقلت الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة من مرحلة السّريّة إلى مرحلة الدعوة الجهرية وعدم تقبّل المشركين لها، باتت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من مكة من إلى يثرب الضرورة بمكان؛ لذلك فإن أسباب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة، سنذكر أهمها فيما يلي:
كان من أهم الأسباب هو رفض أهل مكة للإسلام ومحاربتهم له، مع ثبوتهم على الكفر والشرك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم بكل ما أوتي من الوسائل حتى يدخلوا الإسلام ولكن دون جدوى. كما كان الإيذاء البدني والنفسي الذي تعرّض له المسلمون بسبب توحيدهم لله وتركهم الشرك وعبادة الأصنام، سببًا بأن ضاقت عليهم مكة بسبب أفعال المشركين وكان لابد من الخروج منها حتى يتمكن المسلمون من نشر الدعوة.
ثم كانت حاجة المسلمين إلى كيان واحد يجتمعون به في مواجهة التحديات والصعوبات، وكانت إقامة الدولة الإسلامية مستحيلة في مكة بسبب رفض أهلها الإسلام، ولكن الأمر لم يكن كذلك في المدينة، وقد أسلم أغلبها حتى أصبحت المكان الأنسب لإقامة تلك الدولة. فمصعب بن عمير عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب حتى يدعوهم للإسلام لاقى ترحيباً كبيراً من أهل المدينة، حتى إن معظمهم أسلم على يده مما جعلها مكاناً مناسباً لإقامة الدولة ونشر الرسالة.
بالإضافة إلى أنها مما يترتب على وجوب تبليغ رسالة الإسلام والقيام بكل الوسائل ذلك، إذ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أول من هاجر من الأنبياء، فقد هاجر من قبله نوح عليه السلام، وكذلك إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام وغيرهم الكثير في سبيل الدعوة إلى توحيد الله واتباع دينه.
طريق الهجرة النبوية وأحداثها
تبدأ أحداث هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل إلى بيت الصديق أبي بكرٍ رضي الله عنه وكان ذلك وقت الظهيرة، على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتد زيارة صديقه أبي بكر في هذا الوقت من النهار، إذ كان يزوره غالبًا: إما صباحاً أو مساءً، مما جعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حيرةٍ من أمره واستغراب إذ قال: "ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت إلا لأمرٍ جلل:(أي عظيم)".
كان في بيت الصديق ابنتاه: أسماء وعائشة، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق أن يخرجهما على أن تسمعان السر الذي سيتحدث به إليه، فأجابه الصديق أنهما ابنتاه ولا خطر من سماعهما للسر، فقبل النبي وتحدث قائلاً: "يا أبا بكر، إن الله عز وجل قد أذِن لي بالخروج والهجرة"، فرد عليه الصديق رضي الله عنه قائلاً:" الصحبة يا رسول الله؟" فأجابه صلى الله عليه وسلم:" نعم يا أبا بكر، الصحبة" فانفجر أبو بكر الصديق بالبكاء من شدة فرحه بهذا الخبر.
في هذه الأثناء اجتمع وجهاء وزعماء المشركين في دار الندوة، حتى ينظروا ماذا يصنعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عندهم قد فرّق جمع قريش وأضاع هيبتها أمام القبائل العربية.
ثم إن ما يدعو به سيسلب منهم زعامتهم وقوتهم، مما يجعل الإسلام تهديداً لهم ويجب أن يقضوا عليه. فأخذ بعضهم يقترح: طرده من مكة ليرتاحوا منه، وبعضهم الآخر قال : نحبسه ونمنع الناس من رؤيته أو الاستماع إليه، لكن أبا جهل جاءهم بفكرة أسوأ من الذي سبق فقال: "نأخذ من كل قبيلةٍ رجلًا فارسًا شجاعًا قويًا، ونعطي كلَّ واحدٍ منهم سيفاً صارماً، فيجتمعون على محمدٍ فيضربوه ضربة رجلٍ واحد فيتفرق دمه بين القبائل" واتفقوا على ذلك الأمر وقرروا تنفيذ تلك الخطة في الليل.
نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن لا يبيت في فراشه هذه الليلة حتى تفشل خطة المشركين، فكانت خطة النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعل عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه يبيت في فراشه بدلاً منه، وأن يتغطى ببردته الشريفة، حتى يعتقد المشركون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي في الفراش وليس علياً.
وفي الليل اجتمع أحد عشر مشركاً أمام بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعلى رأسهم أبو جهل، وأخذ يستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بحسب ظنه أنه سيُقتل بعد قليل.
خرج رسول الله إليهم وهو يقرأ قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)[١] ، فلم يره أحدٌ من المشركين قط، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنةً من التراب وبدأ يضعها على رأس كل واحدٍ منهم ثم انصرف عنهم، فجاء رجلٌ رأى المشهد فسألهم: "ماذا تصنعون هنا؟" فأجابوه أنهم ينتظرون محمداً حتى يخرج ليقتلوه، فتعجب قائلًا:" لقد خرج محمد أمامكم وقد وضع على رؤوسكم التراب ثم ذهب"
فتحسسوا التراب على رؤوسهم وقاموا ليتأكدوا من خروجه عن طريق نافذة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوه مازال نائماً في فراشه فلم يصدقوا كلام الرجل وعادوا لأماكنهم منتظرين الصباح لينفذوا الخطة. وعند الصباح دخلوا إلى البيت وكشفوا الرداء فوجدوا أن علياً كان نائماً في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم:" لقد صدقكم الرجل الذي حدثكم".
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبو بكر الصديق، وكان ينتظر مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجا إلى جبلٍ فيه غار اسمه غار ثور، وقبل أن يدخلاه دخله أبو بكر الصديق أولّا ليستطلع ويتأكد من خلوه مما قد يؤذي الني صلى الله عليه وسلم، فوجد جحرين داخل الكهف، فأغلق أحدهما بثوبه وأغلق الآخر بقدمه ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل، فدخل وكان مجهداً من الرحلة فنام متكئاً برأسه على رجل صديقه أبي بكر رضي الله عنه.
ثم ما لبث أن لدغت قدم سيدنا أبي بكر الصديق ، ولم يتحرك حتى لا يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، لكن عينيه أدمعت من الألم فنزلت دمعة على وجه رسول الله، فاستيقظ صلى الله عيله وسلم وقام يسأل أبو بكر عن سبب بكائه فأخبره أن شيئاً ما قد لدغه في قدمه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم صاحبه ودعا الله أن يشفيها ثم نفث على قدمه، فبرأ مما أصابه.
خرج المشركون يبحوث عن رسول الله وأبي بكر، حتى وصل فرسان مكة قد وصلوا إلى مدخل الغار الذي اختبأ فيه رسول الله وأبو بكر الصديق ووقفوا عنده، فحزن أبو بكرٍ خوفاً على رسول الله من أن يتأذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا بكر؟" فأجابه: "لا شيء سوى أنه إذا نظر أحدهم موضع قدمه لأبصرنا يا رسول الله" فقال صلى الله عليه وسلم:" ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، فنجّى الله تعالى نبيه وصاحبه وأبعد المشركين عن الغار.
ولبثوا ثلاثة أيامٍ في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأخذ الطعام إلى رسول الله وأبيها، أما عبدالله بن أبي بكر فكان يطوف مكة نهاراً ليجمع الأخبار، فإذا أتى الليل خرج إلى الغار حتى يروي ما سمعه لرسول الله وأبيه، أما مولى أبي بكرٍ عامر ابن فهيرة، فكان يسوق الغنم خلف أبناء أبي بكر الصديق حتى تضيع آثار أقدامهم على الرمال، ولا يتمكن أحد من تعقب مكان مكوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ معه.
بعدما يئست قريش من البحث عن رسول الله وأبو بكر الصديق قامت بإعلان مكافأة مقدار مائة ناقة لمن يجدهما أحياءً أو أموات، وقد حان وقت خروجهما من الغار لينطلقا في رحلة الهجرة الشريفة، ومن أجل هذا اليوم كان أبو بكر قد جهّز راحلتين ليسافرا بها إلى المدينة المنورة.
انطلق رسول الله وأبو بكر الصديق في الهجرة النبوية الشريفة بحفظ الله تعالى ورعايته، يرافقهما عبدالله بن أريقط : الرجل الذي استأجره أبو بكرٍ ليدلهما على طرق السفر غير المعروفة لدى قريش حتى لا يقطعوا طريق رسول الله أو يصلوا إليه، ولكن أحداً من قريش واسمه: سراقة بن مالك قد علم بمكان وجود رسول الله وأبي بكرٍ، فانطلق مسرعاً على فرسه ومعه سيفه حتى يدركهما ويفوز بالمكافأة.
لكنه كان كلما اقترب منهم غرزت أقدام فرسه بالرمال وتعثرت مرارًا وتكرارًا، حتى أيقن سراقة أنه لن يستطيع اللحاق بهم أبداً، فنادى عليهما من بعيد فأذنا له بالاقتراب، فانتظراه حتى أتى فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضاً فقال: ارجع إلى قومك في مكة ولا تخبر أحداً أنك وجدتنا ولك سوار كسرى ملك الفُرس، فقَبِل سراقة وأخذ رقعة مكتوبًا فيها هذا الوعد ورجع وكتم الأمر كله.
وفي الطريق وجدوا خيمةً بعيدة وقد شعر رسول الله وصاحبه ومعهما ابن أُريقط بالجوع والعطش، فانطلقوا إليها مسرعين حتى وصلوها فلم يجدوا فيها سوى امرأة تدعى أُم معبد الخزاعية، فاستأذنها النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الطعام والشراب ولكنها أجابت أنها سنة قحط وجفاف وليس لديها ما تطعمه للزوار.
وجد الرسول عليه الصلاة والسلام عندها شاة هزيلة فسأل عنها أم معبد فقالت: إنها تخلفت عن القطيع لعدم قدرتها على المسير من شدة ضعفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لي بلبنها؟" فقالت إنها قد جف ضرعها من شدة العطش، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أصر فقبلت بذلك وهي لا تعلم أنه رسول الله. فاقترب رسول الله من الشاة ودعا لها ثم مسح على ضرعها وبدأ يحلبها، فنزل منها ما ملأ القدر على أكمله.
كان أهل المدينة من المسلمين يخرجون بعد صلاة الفجر إلى أطراف المدينة ينتظرون قدوم رسول الله إلى يثرب كل يومٍ حتى أتى اليوم الثامن من خروج رسول الله في الهجرة النبوية، وكانوا قد انتظروا قدومه حتى الظهر، فرأى أحد اليهود رسول الله وأبا بكر الصديق قادمين من بعيد فصاح بصوته: "يا بني قيلة! ها قد جاء صاحبكم، قد جاء جدكم الذي تنتظرونه" فقام جميع أهل المدينة يركضون لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحين بقدومه مشتاقين لرؤيته.
الهجرةُ النبوية مفتاحُ بدايةٍ جديدة
لا شك أن للهجرة النبوية ودروسها والعبر المستفادة منها الأثر العظيم، تساهم في تغيير تركيبة المجتمع الجاهلي المتعنت، إلى مجتمع يقوم على أساس حسن الخلق وإقامة العدل ورفع كرامة الإنسان بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو أصله، كما جعلت تلك القبائل المتفرقة تنصهر في بوتقة الدولة الواحدة مكوّنة منها دولةً إسلامية ذات نظم وأُسس لم يشهدها العرب من قبل.
تلك الدولة التي أصبحت منطلق الدعوة الإسلامية إلى الناس أجمعين، فأصبحت تخاطب كبار الدول وتجري الاتفاقيات والمعاهدات مع غيرها، وتحمي نفسها ورسالة الإسلام من العدوان، حتى منَّ الله عليها بفتح البلاد ونشر الإسلام في العالم كلّه.
إن الهجرة النبوية ترسم من خلال روايتها، قصصاً تزرع الأمل في قلوب من يقف عليها متأمّلًا؛ حتى إذا ما شعر بالضيق والحزن يتذكر أن الله موجودٌ معه كل لحظة، وأن الأمر لم ينتهِ بعد، وأن ما بعد الضيق إلا الفرج.
المراجع
- ↑ سورة يس، آية:9