محتويات
الرياح تعانق أوراق الشجر
في كل أيلول تهب نسائم الريح معلنة بداية موسم الخريف، ذلك الفصل القادر على تغيير العالم بأكمله، إنَّه عالم الطبيعة حيث الصمت والسكون ولا متحدث في هذه اللحظة إلا الخريف، يحلو للرياح في مثل هذا الوقت من أوقات السنة اللعب مع أوراق الأشجار، فيكون لعبها ناعم في بعض الأحيان وقاس في كثير من الأحيان الأخرى، فتبدأ الأوراق بالتّخلي عن طبيعتها الخضراء ورونقها الجميل وتخضع لقوة الخريف وإرادته حتى تصبح قريبة من الموت كالإنسان في آخر أيّام حياته، عندما يقترب عمره من الأربعين وتبدأ خيوط الشيب تلعب لعبتها في شعره حتى يشتعل رأسه شيبًا وترتجف أوراقه كما ترتجف الورقة الصفراء التي تُحاول جاهدة أن تبقى على الغصن.
الريح لا تحب أن تقسو على الأوراق لكن حكمة الحياة أن يكون على الأرض ظالم ومظلوم، إذ لا يُقام ميزان العدل إلا في ندرة من الأحيان، ولا عدل بين الريح والأوراق فهذه رقيقة ناعمة نضرة والأخرى قاسية لعوب فرضت الحياة أن تكون هي القاتلة في تلك المرحلة، فتبدأ الأوراق بالتساقط شيئًا فشيئًا لتُشكل تلك اللوحة الفنية بارعة الجمال، اللوحة التي حاول الرسامون جهدهم أن يأتوا بمثلها فما استطاعوا لذلك سبيلًا، وتبدأ تلك الأوراق بالتحلل شيئًا شيئًا حتى تتختلط مع التربة فتكون وإياها سواء، لتعيد الأرض دورتها وتعود في أحد الأيام على الغصن خضراء يانعة.
هجرة الطيور إلى العالم الدافئ
يبدو أنَّ فصل الخريف له سطوة عظيمة على من حوله، فهو لم يكتف بفرض سيطرته على الأرض حتى فرضها على الجو العام، وكل ذلك بأمر من الله وحده، فلمّا ترى الطيور ما فعله الخريف وكيف استطاع قلب الأجواء الصيفية إلى أجواء شبه باردة تُقرر مع أقرانها الرحيل عن ذلك المكان الذي علاه البرد والسكون، ومن المعروف أنّ الطيور هي مخلوقات مرحة تطير وتزقزق، حتّى أنّ الإنسان النشيط يُشبهونه بالعصفور الذي يحط على الزهور في اليوم الصيفي المُنعشن، ومحالٌ أن يجتمع النشاط والسكون فكان على الطيور أن تترك ذلك المكان وترحل إلى آخر لم يأت الخريف إليه بعد.
فتبدأ الطيور بمناداة بعضها معلنة الرحيل وتُشكل في هجرتها ما يُشبه الرقم سبعة في اللغة العربية ويترأس تلك القافلة رئيسهم الذي سيرشدهم إلى المكان الذي يبغون، فالطيور مخلوقات حساسة لا تحتمل أن تعيش في الأجواء التي لا تُناسبها، وكذلك فهي صديقة الأوراق الخضراء والزهور اليانعة ولا تستطيع أن ترى أصدقاءها قد فارقوا الحياة لتحط هي على الغصن اليابس المريض، فكان الرحيل عن أرض الخريف هو أحسن الحلول بالنسبة إليها، على الأقل حتى يأتي وقت يرحل فيه الخريف ليحل الصيف الدافئ الجميل، ذا الأزهار الملونة والفراشات الجميلة.
حداد الشمس على نفسها
لمَّا ترى الشمس ما حلَّ بالأرض من تغيّرات عظيمة، وكيف أنَّ الطيور قد هاجرت وتركت هذا المكان للخريف لأنّه سيد الموقف في هذه الأشهر من السنة، تعرف في قرارة نفسها أنَّها لن تقوى على مواجهة الخريف الآن، ولا بدَّ لها من الاستسلام وأن هذه الأيّام هي ليست أيامها فلكل زمان دولة ورجال، ورجال الخريف هم الغيوم المتلبّدة والريح القوية وهي لا تستطيع مواجهتم جميعًا وهي منفردة، فتختار الانسحاب وعدم المواجهة، ويبدأ الخريف بإطلاق ضحكاته العالية فتدوي في أرجاء الأرض، ويقول أنا الآن هو الفصل المسيطر.
تأوي الشمس إلى نفسها وتخاف من الخريف، فتُصبح ضعيفة جدًّا لا تستطيع الظهور، وإن هي حاولت أن تستعيد أمجادها في السطوع جاءت الغيوم فسدّت عليها الأفق وأرجعتها عن الأرض وأبعدت خيوطها الذهبية عن المنازل، فلاشمس الآن في وقت الظهيرة أو وقت العصر تتسلل عبر النوافذ والمداخل، فتبقى اللعبة في هذا الفصل بين الشمس والغيوم والرياح ما بين كرٍّ وفر، فلمّا تتقدم هي يُسارعوا هم لحجبها، ويأخذوا بثأرهم منها فهي المسيطرة في فصل الصيف ولا تدعهم يبرزوا عضلاتهم في صيفها أبدًا وهم كذلك الآن يفعلون.
الآن كلٌّ منهم يعرف موقعه ووزع الخريف الأدوار على الجميع، وصارت الشمس تعرف ضعفها، فتختار أن تلبس الحداد حزنًا على نفسها، فالجميع مشتاقٌ لها ولكن الآن دور الخريف في هذه اللعبة العظيمة.
الليل يحكي للقمر عن أسطورة الخريف
يبدو أنَّ أسطورة الخريف ليست حديثة العهد والليل لا يمل من حكايتها للقمر المنير الجميل، ومشهد فصل الخريف يتكرر في كل عامٍ ليرسم ذات اللوحة تزيد أو تنقص حسب ما تقتضيه الحياة، فتبدأ الغيوم بالتلبد في ساعات الليل الأولى لتتجمع مع بعضها كتجمع الأطفال عند الراحلة لمّا يعزموا على الذهاب في رحلة إلى شاطئ جميل، تغيب النجوم في سماء الخريف ليظهر الضوء خافتًا هادئًا حزينًا كأنّها استبدلت لونها الأبيض اللامع بما يشبه الرمادية القاتمة، فيُحاول كل من القمر والنجوم والليل أن يتكور على نفسه ويهدهد لصديقه أغنية عن الخريف والأجواء فيه.
الخريف هو أغنية الطبيعة التي ينشدها النَّاس فيتأمل كلٌّ منهم السماء متطلعًا إلى ملكوت ربه وحكمته في إبداع طبيعة هذا الكون، فتتضافر أسباب الجمال بين أوراق الشجر المتناثرة على قارعة الطريق وبين ضوء القمر الهادئ المتسلل إلى المنزل عبر نوافذه، وبين صوت البومة في الليل البهيم الذي لا يسمعه سوى من تقاسم الجمال مع الخريف، ليُصنع من كل ذاك جو الخريف الساحر، ويكون الخريف تلك اللوحة التي احتار الأدباء في كيفية نسجها في قصائدهم، فكلّما نسجوا عبارات عن الوصف وبالغوا في تنميقها فاجأتهم الطبيعة بما هو أجمل من كلماتهم، إنّه الخريف فصل االجمال والعطاء وتبادل المودة والرحمة والسكينة، فلا شيء أجمل من لحظة هدوء في خضم هذه الحياة.
لقراءة المزيد، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: موضوع عن فصل الخريف.