محتويات
مفهوم التسامح الديني في الإسلام
إنّ التسامح الدينيّ يتمثل بمجموعة من المبادئ والقيم العظيمة؛ التي تقوم على إقرار السلام، وكراهة الفتن والمشكلات، وإغلاق أبواب العنف ومصادرة الحريات، وتقييد الناس وإرهابهم، والفرض عليهم باتباع منهج واحد، وطريق واحد، مع استخدام أساليب الحوار والمجادلة بالحسنى لإرشادهم، ودعوتهم إلى الدين الحنيف.[١]
من صور التسامح الديني في الإسلام
عاش الناس منذ تأسيس الدولة الإسلاميّة الأولى في ظلّ الحكم الإسلامي بمختلف الأفراد، ومن جميع الديانات بتعايش وسلام، فقد وضعت التشريعات الإسلامية أحكاماً عديدة تضمن حقوق كل فردٍ يعيش في الدولة الإسلامية، وقد تجلّت صور التعايش الديني في الإسلام بمواقف عدّة من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، يمكن بيانها على النحو الآتي:
وثيقة المدينة وإعطاء اليهود حقوقهم
وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- وثيقة المدينة لتنظيم شؤون الدولة، فقد كانت بمثابة دستور إسلاميّ؛ نظّمت حقوق المواطنين من المسلمين -مهاجريهم وأنصارهم-، وحقوق المواطنين من غير ملة الإسلام، فمن الأمور التي نصّت عليها هذه الوثيقة:[٢]
- القضاء على النزاعات الدينية، والسياسية، والقبليّة.
- الاتفاق على مرجعيّة واحدة في حلّ النزاعات، والقضاء بين الناس بالعدل، وهذه المرجعيّة تمثلت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقيادته الحكيمة.
- تعزيز مفاهيم التكافل الاجتماعي بين أبناء القبيلة الواحدة، والديانة الواحدة، وضمّهم جميعاً تحت ظل مجتمع واحد.
- حفظ الأمن والأمان في الدولة، والاتفاق على ردّ الظلم والعدوان عنها مسؤوليّة جميع المواطنين؛ فيشترك المسلم واليهوديّ في الدفاع عن كيان هذه الدولة، ومنع التعدي عليها وعلى ساكنيها؛ فحفظت بذلك الدماء والأموال والأعراض؛ حيث جاء في الوثيقة: "... وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النَّصرَ على من حارب أهل هذه الصَّحيفة...".
- إعطاء حقّ المواطنة والإقامة في المدينة لغير المسلمين، مع حمايتهم وإعطائهم الحريّة في إقامة شعائرهم الدينيّة.
- جعل الاختلاف والتعدد بين أبناء مجتمع المدينة سبباً للنهضة والتقدم، وقبول الآخر وتبادل الخبرات معه، لا سبباً للتنازع والشقاق؛ ففي نصّ الوثيقة: "... وإنَّ بينهم النُّصح، والنَّصيحة، والبرُّ دون الإثم ...".
- وضع نظام الجزاء والعقاب على كل من يتعدى على غيره دون وجه حق؛ دفعاً للحروب الداخلية، والنزاعات القبلية والعشائرية، وحفظاً للسلام الداخلي.
- الاحتكام إلى القوانين التي تفرضها الدولة، والتي تتكفل بتطبيقها على الجميع دون محاباة أو ميل لطرف دون آخر.
الأمر بالهجرة إلى الحبشة
لمّا ضاق الأمر بالمسلمين واشتدّ عليهم أذى قريش؛ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة إلى مكان آمن يحميهم من هذا الاعتداء والأذى؛ فوقع اختياره -صلى الله عليه وسلم- على أرض الحبشة؛ على الرغم من أنّ ملكها كان يومئذٍ على الديانة النصرانيّة.[٣]
إلا أنّ ذلك لم يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من مدح عدالته، والإذن للمسلمين بالتوجه إلى بلاده؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ بأَرْضِ الحبَشَةِ مَلِكًا لا يُظلَمُ أحَدٌ عندَه، فالْحَقُوا ببلادِه، حتَّى يجعَلَ الله لكم فرَجًا ومخرَجًا مِمَّا أنتم فيه).[٤][٣]
زيارة الغلام اليهودي وإسلامه
ثبت في الصحيح أنّ غلاماً يهوديّاً كان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض ذات يوم، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يزوره ويطمئن على حاله، ثم قعد عند رأسه يدعوه إلى الإسلام؛ إذ لم يُفوّت النبي -صلى الله عليه وسلم- الفرصة في دعوة هذا اليهوديّ بالحسنى، حيث علم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقع زيارته في نفس هذا المريض، وفي نفس أبيه الذي قدّر لطف النبي وحسنه وطيب أخلاقه.[٥]
مما جعله يطلب من ابنه أن يطيع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسلم؛ فقال له: (أطِعْ أبَا القَاسِمِ)، فأسلم هذا الغلام، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده مسروراً وهو يقول: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ)؛[٦] وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدل على سماحة الإسلام، وحسن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله -تعالى-، مما جعل المخالفين له في الدين يشهدون ويقرّون له بذلك.[٥]
احترام النفس الإنسانية
أقرّ الإسلام مبدأ احترام النفس الإنسانيّة التي أودع الله -سبحانه- فيها سرّ الحياة، وذلك احتراماً لخالقها وموجدها -سبحانه وتعالى-، كما اهتمّ الإسلام بجنائز الموتى بغض النظر عن ديانة صاحبها؛ إذ إنّ نظرة الإسلام في هذا الشأن تُركز على ذات النفس البشريّة، مع اسقاط الاختلافات العقائدية والدينيّة.[٧]
حيث ثبت في الصحيح أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عندما مرّت به جنازة، فأخبره المسلمون بأنّها لرجل يهوديّ؛ إلا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلّ واقفاً احتراماً لهذه النفس، وتقديراً لشدّة الموقف، وقال لأصحابه: (أَليسَتْ نَفْسًا). [٨][٧]
فتح بيت المقدس
تكللت سماحة الإسلام في فتح بيت المقدس زمن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأبهى وأنقى الحلل؛ وذلك لمّا أعطى الفاروق أهل بيت المقدس الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، بعد أن تسلّم مفاتيح بيت المقدس منهم.[٩]
وليس ذلك وحسب؛ بل ذهب الفاروق خليفة المسلمين إلى كنيسة القيامة يتفقدها قبل أن يدخل المسجد الأقصى المبارك؛ فلمّا أدركته الصلاة رفض الفاروق أن يجعل صلاته في الكنيسة.[١٠]
وذلك خشيةً عليها، بأن يتخذ بعض الناس هذا التصرّف حجةً لأخذ الكنيسة، وجعلها مسجداً، فيُضيقوا على أصحابها من أتباع النصرانيّة؛ بل صلى -رضي الله عنه- في مكان آخر مقابل هذه الكنيسة، وقد صار من بعده مسجداً تُؤدى فيه الصلوات، وفي هذا إشارة عظيمة إلى حفظ الإسلام لحقوق غير المسلمين بإقامة الشعائر، وحفظ أماكن العبادة التي تُقام فيها.[١٠]
وفي الختام ينبغي التذكير إلى أنّ التسامح الدينيّ، ولين التعامل مع المخالف، وحسن محاورته، وإقامة الأدلة والبراهين لتدعيم الرأي وتقويته هو مبدأ عام عند جميع الشرائع والأديان السماويّة، فنرى ذلك في دعوة نوح، ودعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين -عليهم صلوات الله تعالى وسلامه-.
ويكفينا في هذا الاستدلال بقوله -تعالى-؛ الذي أجراه على لسان رسوله في حواره لمخالفيه: (... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).[١١]
المراجع
- ↑ عبد العظيم المطعني، سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله، صفحة 87. بتصرّف.
- ↑ عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات (27-7-2022)، "وثيقة المدينة المنورة"، دائرة الإفتاء الأردنية، اطّلع عليه بتاريخ 23-2-2023. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد الحق التركماني، الدخول في أمان غير المسلمين وآثاره في الفقه الإسلامي، صفحة 45. بتصرّف.
- ↑ رواه البيهقي، في السنن الكبرى، عن أم المؤمنين أم سلمة، الصفحة أو الرقم: 17734، قال الألباني إسناده جيد.
- ^ أ ب محمد علي الهاشمي، شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة، صفحة 235. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 1356، صحيح.
- ^ أ ب محمود محمد غريب، شريعة الله يا ولدي ، صفحة 28. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد، الصفحة أو الرقم: 1312، صحيح.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، صفحة 90، جزء 13. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد كرد علي، خطط الشام، صفحة 6، جزء 6. بتصرّف.
- ↑ سورة سبأ، آية: 24.