موضوع عن الحب
كما يَرِدُ الصّادي على نبعِ ماء، وكما تمرُّ القافلة على بئرٍ في الصحراء، وكفرحة المنفيِّ بلقاء وطنِهِ، وكضحكة أمٍّ في وجهِ طفلِها وهو يحاول أنْ يكتبَ أولى خطواتِهِ، وكسحبةِ نايٍ من فمِ عاشقٍ نسي ملامحَ حبيبَتِهِ، وكصوتِ شحرورٍ على غصنِ زيتونةٍ في الصباح، يجيء الحبُّ مُثقلًا بالماء -ماء الحياة- لأنَّهُ هو الحياة والبعث والبداية والنهاية، وقدرُ البشرِ الذي كتبَهُ الله -سبحانَهُ وتعالى- عليهم أجمعين، وهذا موضوع عن الحب بين أيدي العاشقين، موضوعٌ على شُرفةٍ نديَّةٍ، أمام غابةِ نخيلٍ، متروكٌ لكلِّ عاشقٍ في هذا الكوكب وردَةً وكتابًا وشمعة.
لقد خلقَ الله تعالى أبا البشر، آدمَ -عليه الصلاة والسلام- من طينٍ، وخلَقَ لهُ من ضلعِهِ حوّاء، لتكون لهُ سندًا ومعينًا، ولتكون أوّل علاقة تُبنى على الحب فوق هذا الكوكب، ولِتُتَابِعَ بعدها فطرةُ البشرية أجيالًا وراء أجيالٍ، هذه الفطرة التي قامتْ عليها الإنسانية جمعاء، والتي تَغنّى بها الشعراء، وعزف لها الموسيقيون، وتفنّنَ في غنائها المغنُّون، حاملينَ على أيديهم وردًا وقُبلات، وشوقًا والتفاتات، وحنينًا يُكتَبُ بالعِطْرِ، ويحفظُ في أعمقِ مكانٍ من الذاكرة.
وقد شهدتْ الإنسانية منذ القِدم، ولم تزلْ شاهدةً في كلّ وقتٍ وحين، على قصص حبٍّ علقتْ في ذاكرة الناس، وردَّدها العامة على مرّ السنين، قصصٌ تُبرهن على أنّ العاشق هو عاقلٌ يفقد عقلَهُ، ومُدرِكٌ يتخلّى عن اداركِهِ بكاملِ إرادَتِهِ، في سبيل أنْ يكون حاضرًا في تفاصيل حياة من أحبَّ، حتّى نُسبَ العاشقون لبعضهم، فلا يكادُ يُذكَرُ اسمُ أحدهم، وإلّا ويُذكَرُ اسمُ الآخر معَهُ، وطالما امتلأت المجتمعات العربية والغريبة أيضًا، بأسماء العاشقين، واشتهرتْ بقصصهم مُدُن وأمصار، وذاع سيطُ عصورهم؛ لأنَّهم عاشوا بها وكتبوا بها، وعشقوا بها، فمن لا يعرف شعراء الغزل العذري، الذين عاشوا في منطقة الحجاز، وعشقوا وكتبوا، وتجرّدوا من عقولِهم، في سبيل عشيقاتِهم، ولم تزلْ كلماتُهم تتردّد على ألسنة الناس وأسماعهم حتى اليوم، فمن لا يعرف كُثيّر عزّة الشاعر الذي جسّد الحب بأسمى غاياتِهِ، وأظهرهُ للناس قطعة من جنان، تُركتْ لأهل الأرض، من خالق الأرض والسماء، فقد قال:
رُهبانُ مديَنَ والذينَ عهدتُهُمْ يبكونَ مِنْ حذرِ العذابِ قعودا
لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامَها خَرُّوا لِعَزَّة َ رُكَّعًـا وسُجودا
ومَن لا يعرف جميل بثينة ومجنون ليلى ومجنون لبنى، ومن لا يعرف روميو وجولييت، وآلاف القصص التي تبدأ كل يومٍ، وتحيا كلّ يوم، وتُخلقُ في كلِّ لحظة، في قلب عاشقٍ جديد، وعاشقة جديدة، ويُخلقُ معها ما يكون مع الحبِّ من غيرةٍ، وهوسٍ، وجنون.
لهذا سيظلُّ الحب باقةَ الوردِ الوحيدة التي لا تذبلُ في هذا العالم، ولو حاولتِ الحروب والنزاعات تشويهها، فستبقى كما عهدها الناس، طاهرة نقيّة كجدول ماء، وهادئة كنسمة عِطرٍ، وشهيّةً كعينيّ عاشقٍ، وسيظلُّ البشر تحتَ مظلَّة الحبِّ، يكتبون ويعشقون، ويبرهنون على أنَّ شعورَ الإنسان بالأمان والدفء والحنان والحبِّ، أقوى وأمضى من الحقد والخوف والحرب والكراهية.