نبذة عن دي سوسير

كتابة:
نبذة عن دي سوسير

فرديناند دي سوسير

هل سُمِع عن مؤسِّس علم اللّغة الحديث؟


وُلد العالم اللغويّ السويسريّ الشهير فرديناند دي سوسير في مدينة جنيف عام 1857م، وتُوفي عام 1913م عن عمر ناهز 56 سنة، قدّم خلالها العديد من الإنجازات في العلوم اللغويّة؛ حتى أُطلق عليه لقب الأب بالنّسبة للمدرسة البنوية في علم اللسانيات، ويعدّه كثيرٌ من الباحثين مؤسِّسًا لعلم اللغة الحديث؛ حيث اتّجه بتفكيره لدراسة اللغة لا بالطّريقة التاريخية التقليدية، وإنّما بطريقة وصفية حديثة معتبرًا اللغة ظاهرة اجتماعية، ومن أهمّ إنجازاته في حقل اللغة واللسانيات، دعوته لدراسة الإشارات الصوتية من ضمن دراسة اللسانيات، واقترحَ تسمية هذا العلم باسم السيميولوجيا، أو علم دراسة الإشارات، وفيما يَلي يأتي الكلام المفصّل عن فرديناند دي سوسير، وأهمّ أعماله وجهوده وإسهاماته في دراسة اللغة.[١]

السيرة الذاتية لسوسير

أين درس دي سوسير وكيف بدأت حياته العلمية؟

تأثّر سوسير بالبيئة العلمية التي نشأ فيها، فقد كان والده عالمًا في مجال المعادن والحشرات والتصنيف، وقد أظهر فرديناند قدرة عقلية ومهارات ذهنية كبيرة في سنوات شبابه الأولى، فقد انتقل في سنّ الرابعة عشرة إلى معهد مارتان المعروف آنذاك باسم معهد ليكولتر، والذي تخرّج منه لاحقًا في المرتبة الأولى، وفي حين كان يرغب بمتابعة الدّراسة في جمنازيوم جنيف، قرّر والده أن يرسله إلى كلية جنيف، وهناك تعلّم اللغات اللاتينية والإغريقية والسنسكريتية، لكنّه لم يكُن راضيًا عن هذه السنة، ووصفَها بأنّها كانت مضيعةً للوقت، ثم انتقل ليبدأ الدراسات العليا في جامعة لايبزيغ عام 1876م، وبعد عامين من الأبحاث نشر كتابه بعنوان "أطروحة على نظام الحرف المصوّت البدائي في اللّغات الهندوأوروبية".[٢]


انتقل سوسير بعد ذلك إلى برلين؛ حيث درس في جامعتها اللغة الكلتيّة تحت إشراف أستاذه هينريتش، فيما تابع دراسته في اللغة السنسكريتية أقدم لغة في العالم تحت إشراف أستاذه هيرمان أولدنبرغ، قبل أن يعود إلى لايبزغ في سويسرا للدفاع عن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، والتي جاءت بعنوان "الاستخدام المبتكر في السنسكريتية"، وبالفعل تمكّن من الحصول على الدكتوراه عام 1880م، لينتقل بعد ذلك إلى مدينة باريس عاصمة فرنسا، حيث ألقى في جامعتها عددًا كبيرًا من المحاضرات حول اللغة السنسكريتيّة والقوطية والألمانية القديمة، ومواضيع لغوية أخرى.[٣]

جهود سوسير في البحث اللغوي

ما هي النظرية التي جعلت من دي سوسير مؤسِّسًا للمدرسة البنيوية في دراسة اللغة؟

قدّم سوسير إسهامات جليلة في علم اللغة واللسانيات العامة، حتى اتفق جميع الباحثين اللّغويّين في العصر الحديث على أنّه مؤسِّس اللسانيات البنيوية في دراسة اللغة، لكن عبارة البنية لم تستخدم في محاضراته إطلاقًا، وإنّما كان يستخدم مفردات "النسق" أو "النظام"، ويمكن توضيح نظرية سوسير من خلال النقاط التالية:[٢]

تعريف دي سوسير للغة

خالف دي سوسير في نظرته للغة ما كان سائدًا قبله، حيث انتقل بتعريفها من النظرة التاريخية إلى فكرة المجتمع، وهو يقول أنّ اللغة: "نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية في أذهان الجماعة اللغوية، تُحقِّق التواصلَ بينهم، ويكتسبها الفرد سماعًا من جماعته"، وبهذا التعريف يقرر سوسير أنّ اللغة عبارة عن نظام يتأسس على علاقات ترتبط بها العلامات، وهذه العلاقات يشترك في فهمها جميع أفراد الجماعة اللغوية، وتشكل المخزون الذهني بالنسبة لهم.[٤]

استنادات نظرية دي سوسير

من خلال نظرته حول اللغة وتعريفها، يعدّ سوسير أوّل من أدرك أنّ اللغة نظامٌ له قواعده الخاصة القائمة على الاتفاق الاصطلاحي بين المجموعة اللغوية، وقد استنتج العلماء من تعريف دي سوسير أنّ اللغة كنظام يجب دراستها ككلّ مُتكامل من خلال أجزائها، مع تحديد أنها ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التواصل والتّفاهم بين الناس.[٤]

ثنائيات نظرية دي سوسير

واعتمد في دراسته ومنهجيته على طرح الفكرة وما يُقابلها، وبهذه الطريقة من الاستقراء يُمكنه شرح الأفكار عبر دراسة ثنائيّات متعددة، يُوضّح من خلالها مبادئ نظريته، ومن أهم الثنائيّات التي درسها دي سوسير:[٥]


  • ثنائية الدال والمدلول: يتحدث في ثنائية الدال والمدلول عن الدّال: وهو الصورة الصوتية، أمّا المدلول: فهو يعبّر عن الصورة الذهنية للدال، وتتحقق الدلالة الكاملة من خلال اقتران الدال بالمدول، وبهذا يتم الفهم على أنّ سوسير يقرر عدم إمكانية فصل الصوت عن الفكرة، ولا العكس؛ فكلمة "رجلٌ" هي دال مؤلف من أصوات الأحرف التي تؤلف الكلمة، أمّا المدلول: فهو معنى الكلمة أي صفات الرجل.[٥]


  • ثنائية تزامن وتزمّن: وهي ثنائية تتعلق بالمناهج اللسانيّة المرتبطة بدراسة اللغة، وقد جعلها على منهجين، يختصّ الأوّل بدراسة ظاهرة لغوية في زمن آنيّ مُحدد، كدراسة خصائص فن الخطابة في العصر الأموي مثلًا، بينما يختص المنهج الثاني بدراسة ظاهرية متعلقة باللغة، ولكن ضمن أزمنة متتالية متعاقبة كدراسة مراحل البحث اللغوي قبل ظهور علم اللسانيات، وهي مراحل متعددة تعود لعدّة أزمنة متعاقبة.[٥]


  • ثنائية الاستبدال والتوزيع: يفرّق سوسير في هذه الثنائية بين المجموعات اللغوية المحفوظة في الذاكرة، وهي تشكّل محورًا استبداليًا شاقوليًا، وبين المجموعة اللغوة الموجودة في كل جملة، والتي تشكّل المحور الأفقي؛ حيث لا بدّ من النظر إلى المحورين معًا ليتحقق فهم الجملة.[٥]


  • ثنائية اللسان والكلام: ومن خلال هذه الثنائية فرّق دي سوسير بين اللغة كظاهرة إنسانية متعددة الأشكال، وبين اللسان كجزء من اللغة بمعناها الإنساني، وبين الكلام بوصفه مفهومًا فرديًا ينتمي إلى اللسان، ويتعلّق بأداء كل فرد.[٥]

استنتاجات نظرية دي سوسير

لعلّ من أهم نتائج دراسات سوسير تفريقه بين اللغة واللسان والكلام؛ فاللّغة مَلَكة بشرية تختصّ بهذا النوع من الكائنات دون غيرها؛ حيث استطاع الإنسان استخدام الرموز المنطوقة والمركبة، والتي تُعبّر عن مسائل غير متجانسة نفسية وفسيولوجية واجتماعية وغيرها، أمّا اللسان؛ فهو جزء محدود من اللغة متجانس في ذاته يشكّل ظاهرة اجتماعية، ويقصد به لغة محددة كاللغة العربية أو الإنجليزية أو الألمانية .. إلخ، أمّا الكلام، فهو كل ما ينطقه أفراد مجتمع معيّن بالاعتماد على معارفهم المشتركة.[٤]


لقد أثّرت دراساته على جميع الباحثين اللّغويّين، ومن ذلك تأثيره على البحث اللغوي العربي؛ حيث تضمّنت مختلف الدراسات اللغوية الحديثة آراء سوسير، غير أنّ هذه الدراسات جاءت متأخرة لأسباب عديدة منها الاستعمار ، إلّا أن الاهتمام تزايد مع بدايات العقد الخامس من القرن العشرين؛ حيث ازدادت حركة الترجمة التي شملت ملفات ومحاضرات سوسير، ثم بدأ الوعي العربي يتنامى بشكل كبير حول آراء سوسير أواخر الستينات ومطلع السبعينات، وتبلور هذا الوعي مع نشوء الدراسات الأسلوبية اللغوية، غير أن دراسات سوسير لم تنجٌ من إشكاليات الترجمة، حيث صدر في العالم العربي العديد من الترجمات لنظريّته، لكنّها متباينة من حيث جودتها إلى حدّ بعيد.[٦].

أبرز أعمال سوسير

ما هي أهمّ مؤلفات دي سوسير؟

يعد دي سوسير من أكثر اللّغويّين الذين تُقتبس أقوالهم، وذلك يعود لعدم نشره مؤلفات كثيرة، حتى أنّ مقالاته العلمية قليلة ومعظمها لا يخلو من الإشكاليات والمواد المنقولة عن غيره من الباحثين، فمنشوراته عن علم الصوتيات اللتوانية مثلًا معظمها مأخوذة من العالم اللغوي الألماني فريدريش كورشات، لكن محاضراته الكثيرة التي قدمها على مدى 11 سنة في كلية الفنون التطبيقية تحمل الكثير من الإنتاج البحثي اللغوي.[٢]


ومن المعروف أن دي سوسير لم يبدأ بتدريس منهجه في اللسانيات العامة إلا في عام 1907م؛ حيث قام بتقدمه لثلاث مرات حتى عام 1911م، لكن تلامذته قاموا بجمع مواد بحثه ونظرياته وأفكاره ومحاضراته وقدموها بعد وفاته في الكتاب الأشهر الذي نُشر باسمه عام 1916م؛ أي بعد ثلاث سنوات من وفاته، وهو بعنوان "علم اللغة العام" أو "بحث في الألسنية العامة".[٢]، وينقسم هذا الكتاب إلى عدد من الفصول التي تناولت مختلف القضايا اللغوية التي تحدث فيها، بالإضافة لنظريته اللغوية وتطبيقاتها، ويمكن الحديث بتوسّع عن هذا الكتاب من خلال تقديم شرح مختصر لكلّ فصل من الفصول في النقاط الآتية:[٧]


  • الفصل الأول: نظرة سريعة حول تاريخ علم اللغة والمراحل التي مرّت بها الدراسات اللغوية، كاهتمام الباحثين بالصيغة الصحيحة، وبالصيغة غير الصحيحة من خلال الدراسة المعيارية، حتى وصلت الدراسات لاحقًا إلى مرحلة اكتشاف العلماء إمكانية عقد مقارنات بين اللغات.[٧]
  • الفصل الثاني: يتناول موضوع علم اللغة ومجالاته وارتباطاته بالعلوم الأخرى سواء في المجتمعات البدائية أم المتمدنة، وفي العصور القديمة والحديثة؛ حيث يقدّم علم اللغة للعلوم الأخرى، ويأخذ منها، وقد لا يميّز الباحث بينه وبين باقي العلوم إلا بخيط رفيع دقيق.[٧]


  • الفصل الثالث: يُبيّن المؤلف في هذا الفصل الهدف وراء علم اللغة مع الإشارة إلى الجانب الفردي والجانب الاجتماعيّ، لكل لسان مع بيان مميزات اللغة، والفرق بينها وبين اللسان الذي يعدّ غير متجانس، على عكس اللغة التي تُوصف بأنها متجانسة.[٧]
  • الفصل الرابع: حمل عنوان علم اللغة وعلم لغة الكلام، والكلام عند سوسير مظهر فردي قصير الزمن، وليس وسيلة اجتماعية، واللغة هنا ضرورة إذا استوجبَ للكلام أن يكون مفهومًا، وأن يوصل الرسالة المطلوبة منه، والكلام هنا ضرورة لتثبيت أركان اللغة أيضًا.[٧]


  • الفصل الخامس: يتمّ خلال هذا الفصل توضيح العناصر الداخليّة والخارجية للّغة، وكذلك العلاقة بين اللغة والتاريخ والتاريخ السياسي، وما رافقَ ذلك من مؤثرات تاريخية على اللغة، غير أن اللّغة هنا تبقى نظامًا له ترتيبه الخاص، وهنا يكمن الفرق بين النظام الداخلي وبين التأثير الخارجي.[٧]
  • الفصل السادس: يشرح فيه المؤلف الصورة الكتابية للّغة، والفرق بينها وبين صورة اللغة عمومًا، فالكتابة وُجدت للتعبير عن اللغة، ويبيّن المؤلف في هذا الفصل أيضا أنّ اللغة والكتابة نظامان مُتباينان مُستقلّان عن بعضهما ويشرح مواطن الفرق بينهما.[٧]


  • الفصل السابع: ثمّ يعرض في الفصل السابع النظام الصوتي أو الفونولوجيا على أنّ هذا النظام يختلف عن علم الصوت الفوتونيك؛ حيث يتميز الفوتونيك بأنّه علم تاريخي يُحلّل الأحداث، أمّا الفونولجيا، فهو يُعنى بالكلام فقط، وفي نهاية هذا الفصل يدرس الفونيمات والأصوات في سلسلة من خمسة أجزاء:[٧]


1. الجزء الأول: يضمّ ثلاثة فصول، أشار في أوّلها إلى مدلول الإشارة والدّال والمدلول، وفي الثاني وضّح صفة الثبوت وصفة التغيير في الإشارة، وفي الثالث تناول علم اللغة الثابت والمتطوع.[٧]


2. الجزء الثاني: تناول فيه علم اللغة السنكروني في ثمانية فصول؛ خُصِّص الفصل الأوّل لعرض بعض مبادئ اللغة، وثمّ تحدث عن الكيانات الملموسة للغة، وعن التطابق اللغوي مع القيم، ثم عن اللغة كفكرة منظمة مقرونة بالصوت، وأوضح العلاقات السنتاكمية والإيحائية ،كما أوضح جهاز اللغة، وكذلك الاعتباطية النسبية والمطلقة، وعرض القواعد وأقسامها، ثم بيّن في الختام دور الكيانات المجردة في القواعد.[٧]


3. الجزء الثالث: جاء بمثابة عرض لعلم اللغة الدياكروني، ويحتوي أيضًا على ثمانية فصول، عرض خلالها المبادئ العامة لهذا المصطلح بالإضافة للتغيرات الصوتية المطلقة والمشروطة، كما تناول الأصول الشعبية للكلمات، أو ما يعرف بالإيتيمولوجيا الشعبية.[٧]


4. الجزء الرابع: يتناول علم اللغة الجغرافيّ من خلال مسألة العلاقات المكانية بالظواهر اللغويّة ممّا يُسبّب الاختلاف، أو ربما التشابه بين اللغات، بالإضافة للفروق بين الأسُرة اللغوية الواحدة كاللغات السامية مثلًا، وكذلك الحديث عن اللهجات.[٧]


5. الجزء الخامس: جاء بعنوان "علم اللغة المُختصّ بتأمّل الماضي"، وتحدّث الكاتب فيه عن اللغة الأمّ وعلم اللغة الزمنيّ، وإسهامات اللغة في علم المجتمعات، والنمط اللّغويّ، وعلاقته بالعقل الجمعيّ للمجموعة اللّغويّة.[٧]

المراجع

  1. "فرديناند دى سوسير"، معرفة، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت ث "فرديناند دو سوسور"، ويكي واند، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
  3. "فرديناند دو سوسور"، ويكي بيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت "اللغة واللسان والكلام عند فردناند دي سوسير"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت ث ج "المبحث الثالث: ثنائيات دي سوسير دراسة تفصيلية "، مبادئ في اللسانيات العامة، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-27. بتصرّف.
  6. "أثر فردينان دي سوسير في البحث اللغوي العربي"، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
  7. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش "كتاب عِلم اللغة العام لمؤلِّفِه فردينان دي سوسير"، بالعربية، اطّلع عليه بتاريخ 2020-09-25. بتصرّف.
7248 مشاهدة
للأعلى للسفل
×