الأم سيدة البدايات
الأم هي الأنثى التي اكتملت في عين ابنها دون أن يرى غيرها من النساء، إذ لا يعنيه طولها ولا شكلها ولا حتى لون عينيها التي لفتت رجلًا آخر، هي المرأة الأولى التي استطاع أن يلثم بفيه نهدها لتكون بينهما علاقة الأمومة التي لا يستطيع أي شاعر مهما بالغ في تنميق لفظه وإعلاء لغته أن يصل لوصف عيني طفل شابهما بضع دقات من الحنان والأمل والحب الطفولي في آنٍ معًا، وأي شيء يُجبر امرأة على تحمُّل آلام المخاض التي تقهر أعتى رجال الحكم الذين يتبجحون بقواهم في معارك لا تنتهي، فإذا به يسمع صوته امرأته تُعاني ألوان العذاب لتنفصل عن جسدٍ آخر يقبع في داخلها.
المرأة التي يرتبط بها جسدٌ ثانٍ عبر حبلٍ اعتقد الأطباء أنَّه موصلٌ للغذاء والدواء، إلا أنّ للأدب رأيًا آخر فهو الموصل للحب والشوق والرحمة، تُحاول كل أمٍّ أن تمتطي كلماتها لتصنع منها أرجوحة ينام الطفل في رحابها كلما أراد أن تعود به الذاكرة، من يستطيع أن يصف تلك العلاقة الأبدية التي تربط بين إنسانين أحدهما كان سرابًا ثمّ تحوّل في لحظة شوق إلى حقيقة، لتكون هي وحدها محرابه الأوَّل وتكون هي وحدها سيدته الأولى، كم يتنقل الرجل بين النساء لو شاء ذلك لكنَّه رغمًا عن ذاكرته أنفه يبقى أسيرًا لامرأة واحدة لا تتغير بتبدل الظروف ولا هي تفنى، فلو فنت من عالم الوجود فأين تهرب من عالم النفس والخيال؟
أيّ بدايةٍ تكون لإنسانٍ دون أمه، أيّ قسوة يعيشها الطفل دون أنامل اكتسبت نعومتها من السَّحر؟ فهي الأولى التي ربتت على أكتاف طفلٍ ما فقه من حياته سوى بضعٍ من الحروف المتقطعة التي إن وُصلت فلن تعدو لفظة "ماما" إنها الشيفرة السرية ما بين إنسانين شاء لهما القدر أن يبقيا معًا أبد العمر.
الأم، تلك النافذة إلى السر
ولمَّا يحمل الإنسان أمتعته من طور الطفولة ويعيث في طور الشباب فرحًا وشقاءً تتأمل عينا الأمل فلذة كبدها وقد بات ينفصل عنها أكثر من ذي قبل، هل يُغتفر للولد ذلك الانفصال أم هي الحقيقة الكامنة التي لا بدَّ للإنسان من تقبُّلها في يومٍ من الأيَّام، صحيحٌ أنَّ الحبل السري الذي يصل الجسدين معًا قد قطع لكنّ الحبل الذي آلى على نفسه أن يصل بين القلبين لن يُقطع على الإطلاق، العمر ليس مهمًّا في نظر الأم فهو سيبقى في طور الطفولة حتَّى ولو خط المشيب عارضيه.
هي المرأة التي تمتلك الأسرار كلها حتى ولو لم يتم الإفصاح لها بذلك إذ إنَّها تقدر على فهم كلّ الأمور وغالبًا هي لا يعنيها الكلام، فما تفصح العينان عنه بين برهةٍ وأخرى أعلى وأجلّ وأعظم، كيف يُمكن للإنسان أن يخفي ما أكنه صدره أمام المرأة التي عاصرته منذ اللحظة الأولى، كيف له أن يشيح النظر عنها حتى لا تكتشف أغوار نفسه وهي نفسها التي علمته أن يشيح بعينيه عندما يُريد إخفاء حقيقة ما، وهل يُمكن للإنسان إلا أن يكون صنيع أمه؟
تجول الأمر في نظرها بين أحضان عيون ابنها وقلبه أتراه ما زال محافظًا على اللهفة التي عهدتها في ثنايا صوته، أم أنَّ للحياة لعبة أخرى معهما؟ إنَّ أخوف ما تخاف منه الأمّ أن يتقن الطفل لعبة غير تلك التي عوَّدته عليها، فحينها ستخضع لقوانين هي لا تعرفها وكل قانونٍ تجهله الأم لا يكون إلا لعنة على حياة ابنها وهذا أحق ما تخشى منه، امرأة انتهت من طور الصبا لتخوض طور الأنوثة المكتملة ولتكون هي سيدة الموقف الذي بنته منذ صباها وريعان عمرها، ولكن هل سيسمح لها ذلك المتمرد أن تدير اللعبة بخيوط شبكتها في نياط قلبها؟ بالطبع نعم فهي وحدها ناذة قلبه وسره.
الأم عرابة النهايات
أخيرًا انتهى دور الشباب ليدخل الطفل في دورٍ آخر وهو الاستعداد لخوض غامرة أخرى والانتقال من محراب الأم إلى محراب امرأة ثانية أو لتنقتل الفتاة من قلب أمها إلى قلب رجلٍ آخر، الأدوار تتالت واختلفت، فالأم لن تبقى هي فقط المرأة الوحيدة المسيطرة على اللعبة، إذ لا بدَّ من دخول غيرها حتى تسير المراحل كما شاء لها القدر، وكما اتُّفق للسنة الكونية أن تسير منذ الأزل، ستلبس الأم رداء لا يشبه تلك الأغطية التي اعتاد الابن أن يراها بها، فرداؤها الآن هو الوقار والحب والرحمة والسكينة والوداع.
ليس من الضروري أن يكون كل وداع بين الأم وابنها هو الموت، بل انتقال حقائبه من دارها هو الموت الذي لا مفر منه عندها، ولربما كان موتًا لذيذًا لطيفًا تسعى إليه بكلتا يمينها، لتنظر إلى طفلها وهو يزف إلى بيت آخر بعد أن كان يبكي إن هي فارقته لبضع من اللحظات، ولكنَّها الآن تجني الثمار التي بدأت بغرسها منذ الأزل، الآن هي تقف على شرفات النهايات، تلك اللحظة القاسية التي لا بدَّ للقدر أن يأتي بها ويخط آخر توقيع له في حياة الابن صاحب العينين الصغيرتين اللامعتين منذ أن رأته الأم في غرفة مخاضها.
الآن يمرّ شريط العمر لثلاثين عامًا مضت ما بين حلوها ومرها وجمالها وبكائها، الآن بات كل شيءٍ مختلفًا، فملابسه لن تملأ المنزل وصوته في ساعات الليل الأخيرة لن يطرق مسامعها بل سيطرق مسامع امرأة أخرها، ولكن هي الآن لن تفقده بل سيولد أطفال آخرون يكونون بلسمًا لوجعها الذي لا بدَّ منه، تقف الأم في نهاية الأم فرحة بصنع يمينها تسأل الله أن يتمَّ نعمه على ما شقيت في إعداده طول السنين، وهكذا تسير الحياة دواليك لتكون الأم وحدها صانعة العالم بأسره.
لقراءة المزيد، انظر هنا: نص وصفي عن الأم.