وصف البحر الهادئ
يتهادى الموجُ برقة اليد الحانية على قلب المتعبين قبل أن يهوي بهمّ الحزن إلى الغرق في الشجون، ويرسل المساءُ أضواءَهُ عبر النجومِ لترسم لوحةً كاملة من الجمال على ماء البحر، فيسكنُ بعد ضجيج النهار ويحاول أن يبث أسرارهُ وشكواه إلى تلك النجوم المبعثرة، فتلمعُ لأجله وكأنها تبسط له ذراعها، وتسكنُ كل ما فيه من كائنات تحت شعاعها وألَقِها.
يمرُّ الغيمُ على سكون البحر الحزين، فيظلّله بغطائهِ كما تفعلُ أمٌّ تحنّ على ولدها الذي أرهقه البرد، فيمسح عنهُ الفوضى ببياضهِ الملائكيّ، ويحوّله إلى بساطٍ يعكسُ لون الزرقة ويمزجها مع انعكاس الليل في المساء، فيُمضي البحر وقته في نعيم الغيم السخيّ، ويتلقّى حبّاته كما يتلقى الزهر حبّات الندى فيحتفي بها وينتشي، ويفردُ بتلاتهِ على الملأ، ويضحكُ مستقبلًا كل ربيعٍ يمكن أن يمرّ في تاريخ الكون.
يفتحُ البحر رئتيهِ ليتنفسَ الهواء الممتد على امتداد القارّات والممزوجَ بإلهامِ الشعراء، والملونَ بانتظار العاجزين عن لقاء أحبابهم، والمتشوقين إلى أمنياتهم، والذين يبيتونَ على أمل بزوغ الفجر حتى يحققوا ما يصبو إليه الخُلدُ من الأحلام، فيتمنى البحر لو أنه يصافح الشمسَ حتى تمنحه انعكاس الإشراق، فتضيءُ ما أطفأه الليل في عوالمهِ، فيمرحَ تحت أشعتها الذهبية، ويغطّي الشاطئ بموجهِ بعد سكونٍ دامَ ليلةً كاملة.
أما طائر النورس الذي يحلّق عاليًا في السماء المُنتشيَةِ بالزُّرقة فهو الشامخ ببياضهِ، المتحدّث الدائم مع البحر، والذي يجعل أوقاته عامرةً بالبهجةِ والفرح، إذ ينتقل من مكانٍ إلى مكان، يتوالدُ قرب البحر ويعيشُ في أكنافهِ، ويجاورهُ في طعامه وشرابه وكل ما يخصّ حياته الساحرة، فهو الصديق الحميم للبحر، والطفل الذى تربى وترعرعَ في أكنافه، يحلّق عاليًا فوق مشهد البحر كل النهار ويأكل من أسماكهِ، ويتأمل وجههُ وكأنها حبات من البِلّور.
وصف البحر الهائج
حين يغضب البحر يحيط به الضجيج من كل حدب وصوب، ولا يكاد يبتلع موجة إلا ويلفظ أخرى، فيلتهم كل ما يراه أمامه، ويهابه كل من يأوي إليه، إذ يخشى أن يكون ضحية لتمدد البحر وبطشه، تتهاوى دفعات الماء فوق الشاطئ الذي أتعبه العطش والشوق، فيغمره ذلك الدفق بالارتواء بعد طول انتظار، ويترك له البحر قليلًا من الذكريات من قاعهِ على هيئةِ صدفٍ يلتقطه العابرون، ويحتفظون به زينة لأجسادهم وأشيائهم التي تربطهم برؤية البحر، فالبحر وإن كان في حالةِ سُخط وغضب يترك بين يدي الناس ما يذكّرهم به، ليعودوا إليه ساعة الصفوِ وقد ملأهم الشوق لرؤيته هادئًا ينصتُ إلى نجواهم، ويستمعُ إلى أحاديثهم النديّة عن الحبّ والحياة.
البحر في الشتاء متقلّب المزاج، يصفعُ الصخور بغضبٍ حين يكونُ مضطربًا، ويحملُ السفن إلى قاعهِ بما فيها من بشرٍ وبضائع، وكأنّه لا يريد أن يرى أحدًا في تلك الساعات العصيبة، ولكنه حتى في تلك الأثناء قد يتسببُ بغنى أحدهم إن نجا من غضبهِ، ووصلَ إلى الأعماقِ فوجدَ جوهرةً ما من كنوزهِ، وعادَ بها إلى حياته المتواضعة بالثراءِ والدهشة.
البحرُ عالمٌ واسعٌ من الجمال والهيبة والمفاجآت، ولا شكَّ أن ربَّان السفينة قد يقضي ساعاتٍ طوال في حديثه عن مغامراته مع البحر ولا سيما في أوقات هيجانه، فهي الأوقات التي تجعل المرء يعيشُ الخوف والقلق وكأنه سيصافح الموتَ في أي لحظة، ويصبحُ وجبة للأسماك التي في القاع، ولكنّ القدرة الإلهية في كثير من الأحيان كانت الملجأ الوحيد، والملاذ الآمن.
وصف وجداني للبحر
البحر عالمٌ من الأسرار التي لا يستطيع أحد الإحاطة بها، فهو الوسيلة الدافئة للشاعر حتى يستلهم القصائد الغزلية الحالمة في محادثة السماء والنجم والليل، وهو المؤتمنُ على حديث القلب الذي يبثُّه العاشقون لأحبّتهم، وهو الملجأ الأول للرسام الذي يريد أن يسكب الألوان على لوحته فيغني معها ويسافر بريشته إلى درجات الألوان التي يتميز بها البحر واندماج آخرهِ مع زرقة السماء، وهو الجسر الذي يركب الناس السفنَ ليصلوا بواسطته إلى أهلهم وأحبابهم، فجمالهُ آسرٌ للقلب، وبريقهُ حاملٌ للأماني التي يعبقُ بها الفؤاد فلا يجد لها مكانًا يبثُّها إليه سوى هذا البريقِ اللامع على سطح الموج الأزرق. إنّه درب الأماني التي تسير إلى التحقيق، ووسيلة الأحلام لكي تكون واقعًا جميلًا.
من المحادثات التي كان يبثُّها للبحر بعض الشعراء، وفي وصف أمواج البحر وما تحمله من الرمزية يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته: "حجر كنعانيّ في البحر الميت":[١]
- لا بابَ يَفْتَحُهُ أمامي البَحرُ
- قُلتُ: قَصيدتي
- حَجَرٌ يَطيرُ إلى أبي حَجَلًا. أتَعْلَمُ يا أَبي
- ما حَلَّ بي؟ لا بابَ يُغْلقُهُ عَلَيَّ الْبحْرُ، لا
- مرْآة أكْسِرُها لِيْنتشرَ الطّريقُ حَصىً أَمامِي
- أو زَبَدْ
- هل مِنْ أَحَدْ
- يبكي على أحَدٍ لأحْمِلَ نَايَهُ
- عنْهُ، وأْظْهِرَ ما تَبطَّنَ مِنْ حُطَامِي؟
حبُّ البحر هو حبُّ الإنسانِ للهدوءِ والرقّة، ولكنها الرقة التي لا تشبه الزهر في إطلاقها، بل الرقة الممزوجةَ بالتقلُّب والتغيير، فهو رمزٌ للجمالِ الذي يُمكنُ أن يقضي على الروح، وشبيهٌ للأفق الذي لا نهاية له، فالعمق الذي في قاعهِ يودي بحياةِ الكائنات التي لا تجيد التعامل مع ذلك العمق وما يحيط به من أسرار وعجائب.
فيا أيها البحر الذي لا يزالُ يحفظُ الأسرارَ ويوصلُ الأماناتِ إلى أهلها، بلّغ أمنياتي لهذا الأفقِ الواسعِ علّه يحنو عليها ويُلبسها ثوبَ العودةِ إليّ بعد طول انتظار، وبلّغ رسائل الشوقِ للأحبّة الذين هاجروا إلى شتّى البقاع وغابت محاسنهم عن الأنظار وغابت أخبارهم عن الدّيار، علّهم يردّوا إليّ السلام فيرتوي قلبي مما في صدورهم، ويُثلجُ صدري صدى أحاديثهم الآتي من بعيد، وأخبرني كلما رأيتَ الجوّ صافيًّا عن أماني الشمس وابتسامتها للغد القادمِ بعد حين، علّني أكسر زجاجَ اليأس الذي خنقَ الآمال الواسعة في مدارِهِ المغلق، وأفتحُ شرفتي على العالمِ بوجهٍ بهيٍّ، جعلَ منه التفاؤل صورةً جليّةً للحسنِ والجمال.
لقراءة المزيد، اخترنا لك هذا المقال: تعبير عن البحر وجماله.
المراجع
- ↑ "الديوان » فلسطين » محمود درويش » حجر كنعاني في البحر الميت"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 18/02/2021م.