محتويات
مفهوم نظرية المحاكاة في الأدب
هل ثمة صلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة المحاكاة؟
إنّ لفظة المحاكاة كانت في بداياتها فكرة صدرت عن فلسفة أفلاطون في كتابه المدينة الفاضلة، وآراء لأرسطو في كتاب فن الشعر، وما لبثت أن تحوّلت الفكرة الفلسفية إلى نظرية تتصل أشد الاتصال بالأدب ونتاجه، وصار لها الكثير من المهتمين والمناقشِين لحدودها وتفاصيلها، ولا بد من معرفة معنى لفظة المحاكاة في اللغة وفي الاصطلاح.[١]
المعنى اللغوي
المحاكاة في اللغة العربية هي مصدر وفعله حكي، ويُقال حكيت فلانًا أو حاكيته أي: فعلت نفس فعله، أو قلت مثل قوله، فالمحاكاة تعني المماثلة والمشابهة في الفعل والقول، وممّا ورد أيضًا عنها في القاموس المحيط أنّ كلمة المحاكاة مأخوذة من حكوت الحديث أحكوه أي نقلته، وحكيت فلانًا حاكيته أي: شابهته وفعلت فعلًا يشبه فعله، وإنّ مفهوم المحاكاة أخذه العرب عن اليونان، وكان المصطلح المستخدم سابقًا هو الحكاية، إلى أن جاء عصر المترجمين فاستخدموا المصدر الميمي المحاكاة.[١]
وقد ورد في بعض المعاجم الأجنبية أن لفظة المحاكاة في اللغة هي مرادفة لكلمة التقليد؛ أي إعادة الشيء تمامًا كما هو، أو هي تقليد للأصل مع الحصول على التأثير نفسه، مثل تقليد النحاس الذهبي للذهب.[١]
المعنى الاصطلاحي
مع أنّ لفظة المحاكاة لفظة يونانية قديمة، وكان لها حضور بارز في الفلسفة والفكر إلا أن معناها الاصطلاحي تأخر حتى عُمل به، وإن لفظة المحاكاة بمعناها الاصطلاحي اتخذت حيزًا كبيرًا من دراسة المفكرين والفلاسفة، فمنهم من رأى أنها المماثلة والمشابهة، ومنهم من قال إنها نقل للواقع، وأفلاطون نظر إليها وكأن الشعر يقف أمام مرآة ويصور الواقع، وبعض المفكرين ربط لفظة المحاكاة بالتقليد والنسخ حتى اختلط الأمر بين المحاكاة والسرقات الأدبية، وأهم ما في الأمر أنّ المحاكاة بمعناها الاصطلاحي هي: أن ينقل العمل الفني الواقع نقلًا دقيقًا يتسم بالحيوية والإبداع ويبتعد عن النسخ، وبذلك تكون المحاكاة خلّاقة ومتميزة في كل مرة.[١]
جذور نظرية المحاكاة في الأدب
كيف ظهرت ملامح المحاكاة في الأدب؟
إذا ما عاد الدارس إلى تاريخ نظرية المحاكاة وبداية ظهورها، يُمكنه أن يضع يده على جذور نظرية المحاكاة في الأدب وكيفية تشكّلها، إذ إنّ هذه النظرية ارتبطت بالأدب من اللحظة التي قال فيها أفلاطون إنّ الشعر هو فن قائم على التقليد، أي: على المحاكاة، ومن هنا بدأ النقاد والأدباء والدارسون يهتمون بهذه الجزئية، لا سيما أنهم يميلون إلى الأدب الذي ينقل الواقع ويصوره، لأنّه يكون أكثر موثوقية وصدقًا واتصالًا بالقرّاء.[٢]
قد وضّح أفلاطون رأيه أكثر عندما بيّن أن الشعر الذي يعتمد المحاكاة هو من أكثر أنواع الشعر تأثيرًا، وبالتالي هو أكثر أنواع الشعر خطرًا، لأنه سيكون ذا أثر كبير على المتلقين، ومن هنا يتوجب مراقبته بدقة، وعن المحاكاة قال أفلاطون: "الخلق الرصين الهادئ قلما يبدي ميلًا إلى التقليد الشعري، وإن الناس الذين اعتاد الشعراء المثول أمامهم بأشعارهم لا يقدرون التلقيد، ولا يقدرون تعب الشعراء فيه"[٣]
إنّ أفلاطون بهذه المقولة وضّح أن موضوع التقليد الشعري والمحاكاة ليس أمرًا سهلًا وبسيطًا إنما يحتاج لجهد وتعب وتفكير، لا بد أن يقدره الناس ويعترفوا بأهميته، ومن خلال هذه الأفكار التي بثّها أفلاطون بدأت بذور المحاكاة في الأدب تنضج وتزداد ثمارها مع كل دراسة وكل رأي يصدر حول مبادئها، حتلى صار للأدباء آراء متعددة ومختلفة عن المحاكاة، منها ما يوافق أفلاطون ومنها ما يخالفه وينقضه ويرد عليه.[٣]
بدايةً اختلطت في نظرية المحاكاة في الأدب بعض المفاهيم وتمازجت ولا سيما في ظل الترجمة عن اللغة اليونانية، وقد كانت في البداية نظرية المحاكاة في الأدب تُعدّ الأساسَ اللغويّ للمذهب الكلاسيكي في الشعر، ومن معانيها: نَفاذ البصيرة في الكُلّيات، لكن هذا المعنى سرعان ما تغيّر وصارت المحاكاة تعني تقليد الأدب القديم عند اليونان والرومان، ولكن أدّتْ هذه الكلاسيكية المقلدة إلى إضعاف الخيال، والحدّ من قوة الإبداع، كما أن نظرية المحاكاة في الأدب لا تُعطي اهتمامًا للشاعر، ولذلك كان من المُلاحظ في النظريّات الجديدة تركيزها على حال الشاعر ومحاولة إنصافه على أنّه جزء مهمّ في إنتاج الشعر.[٣]
المحاكاة عند الفلاسفة اليونان
كيف وضّح فلاسفة اليونان نظرتهم للمحاكاة في الأدب؟
يقومُ مفهوم المحاكاة في الأدب عند الفلاسفة اليونان على مبدأ أنّ ما في الواقع هو تقليد أو محاكاة لما هو موجود في عالم المُثُل، فالشاعر يقلّد الأشياء الموجودة حوله دون أن يعيَ طبيعتَها، وبذلك يكون شِعره هو تقليد التقليد، فهو بعيد عن الحقيقة بدرجتين، وقد طُرِحت مجموعة من الترجمات لمفهوم المحاكاة في الأدب، ولكنّ الترجمة الدقيقة لمفردة المحاكاة الإغريقية "mimesis" هي ليست التقليد "imitation"، ولا التمثيل العقلي "representiul"، إنّما الترجمة الصحيحة هي المماثلة "simulation"، وأبرز فلاسفة اليونان الذين تكلموا عن المحاكة هم أفلاطون وأرسطو.[٤]
المحاكاة عند أفلاطون
تقوم نظريّة المُحاكَاة في الأدب عند أفلاطون على أنّ المحاكاة هي جوهر الفن، إلّا أن المحاكاة عنده بعيدة عن الأصل بثلاث درجات، وكلما ابتعدنا درجة ازددنا بعدًا عن الحقيقة، ولذلك أصبح الشعراء عند أفلاطون وبناءً على رأيه كِذبة، ومن غير المسموح أن يكونوا في جمهوريّته الفاضلة، وبالإضافة إلى ذلك ينبغي طردهم من تلك الجمهورية؛ حتى لا يُفسِدوا على الناس سعادتهم الحقيقيّة.[٥]
المثال على ذلك أنّ الشاعر أو الرّسام إذا أراد أن يصوّر سريرًا، فإنّه سيُحاكي السريرَ الذي صنعه النّجار، والنجار نفسه الذي صنعَ ذلك السرير ليس مبدعًا، إنّما هو مُحاكٍ للسرير الحقيقيّ، وهذا السرير الحقيقي موجود في عالم الْمُثُل، عالم لا نراه، وبالتالي فإنّ السرير غير موجود حقيقةً إلا في عالم المثل، وبذلك يكون عالم المُثل هو الدرجة الأولى للحقيقة، وعالم النجار هو محاكاة لعالم المثُل، أيْ: صار في الدرجة الثانية، وهنا تبتعد الحقيقة عن الأصل شيئًا فشيئًا، ويكون عمل الشاعر أو الرّسام محاكاة للمحاكاة، فيبتعد بذلك عن الأصل بثلاث درجات.[٥]
مع أن أفلاطون وضع أسس نظرية المحاكاة في الأدب من خلال فلسفته، إلا أنه لا يرى أن ما يقوم به الشعراء في محاكاتهم للواقع إبداعًا خالصًا، بل جعل الصانع أو النجار يسبق الشاعر بمرتبة في محاكاته للواقع، وقد كانت آراء أفلاطون تتمركز حول سؤالين هما: ما جوهر الفن الشعري؟ وما وظيفته في الحياة الإنسانية؟[٥]
المحاكاة عند أرسطو
جاء أرسطو وورثَ مصطلح المحاكاة في الأدب عن أستاذِه أفلاطون، ولكنّه أعطاه معنًى مختلفًا، وكان هذا الاختلاف نتيجةً لاختلاف النظرة الفلسفيّة، إذ كان أفلاطون ذا نزعة صوفية غائية، بينما كان أرسطو ذا نزعةٍ علمية تجريبية، ومع أنّ أرسطو كان يرى أن الفنّ محاكاة، إلا أنّه لم يربط نظرية المحاكاة بنظرية المُثل الأفلاطونيّة، ولم يقيّد الفن أو الأدب بقيود الفلسفة.[٦]
أرسطو ينظر إلى الشعر على أنّه محاكاة للطبيعة، ولكنّ الطبيعة ليست محاكاة لعالم عقلي، والشاعر عندما يُحاكي الطبيعة فهو يحاكي ما يمكن أن يكون لا ما هو كائن، وبناء على مفهوم المحاكاة في الأدب عند أرسطو تُرجَع الفنون كافّة ومنها الشعر إلى أصلٍ فلسفيّ واحد هو محاكاة الحياة الطبيعيّة، أرسطو يعيد الشعر إلى غريزتين إنسانيتين هما: غريزة التقليد، وغريزة التناغم والإيقاع والأوزان.[٦]
المحاكاة عند الفلاسفة العرب
كيف كانت المحاكاة في الفلسفة العربية؟
استعارَ الفلاسفة العرب من اليونان نظريّة المحاكاة في الأدب، لكنّهم خلصوها من أسطوريّتها وطابعها الوثنيّ، وقرّبوها إلى العقل والمنطق، وبذلك لم يَعُد النص الشعريّ مُحاكاةً لواقع هو نفسه محاكاة لعالم غير مَرئيّ، إنّما صار يُعبَّر عنه بالبيان والإفصاح، وهذا البيان الصادر عن اللسان هو محاكاة لِما في الأذهان من أفكار وصور، وهذه الأفكار والصور التي في الأذهان هي محاكاة لِما في الأعيان، وبذلك يكون هناك ثلاث درجات أيضًا لكنّها بعيدة كلّ البعد عن الخرافات والأساطير.[٧]
الفارابي
المحاكاة في الأدب عند الفارابي تتصل بكل ما يخص الإنسان من أفعال وانفعالات وأحداث وسلوكيات وأحوال سواء كان ذلك جسديًا أم نفسيًا، وبذلك تكون المحاكاة في الأدب متصلة بالحياة البشرية وما فيها من خير أو شر، وقد جعل الفارابي المحاكاة في الأدب والشعر على نوعين، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر، وحاول أن يُوضّح الفرق بين النوعين من خلال طرح أمثلة واقعية، توصل في نهاية الدراسة إلى أن المحاكاة هي التصوير وليست التقليد.[٧]
ابن سينا
أدرك ابن سينا أبعاد نظرية أرسطو، والتي ترى أن كل الفنون تقوم على المحاكاة وإن اختلفت وسيلتها وأدواتها في التعبير، ويرى ابن سينا أنّ المحاكاة في الشعر لا تكون في اللفظ فقط، إنما تكون في اللحن والكلام والوزن، وإنّ ابن سينا عندما جعل المحاكاة في الشعر تقترن بالكلام المخيل والوزن واللحن فإنه قصد بذلك الشعر المغنى، وأقر ابن سينا من ناحية أخرى أن المحاكاة قد تكون في الكلام والوزن دون اللحن إذا كان الشعر غير مغنى، وأهم ما في آراء ابن سينا أن المحاكاة تقوم على تقديم الشبيه ولا تنقل الشيء كما هو.[٨]
ابن رشد
اهتم ابن رشد بقضية المحاكاة في الأدب والتي تتجه برأيه نحو ما هو موجود لا ما هو ممكن أن يكون موجودًا، وبذلك يكون قد ابتعد عن التخييل، واتجه نحو العقلانية في الأدب عمومًا والشعر خصوصًا، فهو يرى أن المحاكاة تهدف إلى التعقل لا إلى التخييل، وبذلك يكون ابن رشد اتجه في رأيه عن نظرية المحاكاة في الأدب إلى الوظيفة الأخلاقية للشعر وحصر المحاكاة فيها دون غيرها من الوظائف الأخرى التي يؤديها الشعر من خلال محاكاته للواقع.[٨]
المحاكاة عند النقاد العرب القدامى
كيف تجلّت المحاكاة في نظريات النقد العربي القديم؟
إن المحاكاة عند النقاد العرب القدامى كان لها توجهاتها وآراؤها المختلفة، وذلك باختلاف نظرة النقاد للشعر وأهميته ووظيفته من جهة، واختلاف مفهوم المحاكاة الذي وصل إليهم من جهة ثانية، ومن أبرز النقاد القدامى الذين يمكن الحديث عن مفهوم المحاكاة عندهم هما: حازم القرطاجني، والسجلماسي الأندلسي.[٩]
حازم القرطاجني
نظرة حازم القرطاجني حول المحاكاة في الأدب تقوم على أنّ قوام الشعر ليس الصدق أو الكذب بل هو التخييل، ويرى أن أفضل الشعر ما كانت محاكاته جيدة، وشهرته قوية، وصدقه واضحًا، وكذبه مخفيًّا، واقترب من الغرابة، وأسوَأ الشعر ما قبُحت فيه المحاكاة، وظهر فيه الكذب، وابتعد عن الغرابة، وقد فهم القرطاجني قيمة المحاكاة في الأدب من خلال التخييل، وما له من أهميّة في تحريك النفوس، فالسامع للشعر تنشأ في مخيّلته صورة للشيء الذي يسمع عنه فيتخيّلها ويتصوّرها، وبذلك يكون عمل الشاعر هو محاكاة لما تخيّله سواء كان صادقًا أم كاذبًا، ويكون السامع مشاركًا في عملية التخييل أثناء تلقّيه الشعر.[٩]
السجلماسي
هو من الكتاب والأدباء والنقاد الأندلسيين الذين لم ترد عنهم الكثير من المعلومات في المصادر والمراجع التاريخية، إلا أنه كان له آراء واضحة فيما يخص المحاكاة، وأهم ما في الأمر أنّ السجلماسي ربط الأدب بالنفس، ورأى أن البناء الفني الخلاق هو الذي يحمل في نفسه التأثير بالأسلوب والتركيب والتخييل والمحاكاة، وقد تمكّن السجلماسي من استيعاب نظريات أرسطو في الفن والشعر والمحاكاة ووظفها توظيفًا صحيحًا وبلاغيًا في الشعر العربي وفنون الأدب.[٩]
تأثير نظرية المحاكاة الأرسطية في الأدب
هل اتضحت ملامح نظرية أرسطو في المحاكاة في الأعمال الأدبية ودراستها؟
تجلّت المحاكاة الأرسطية وأثرها في الأدب في كثير من الأعمال الأدبية والشعرية لشعراء كثر وفي عصور مختلفة، ودرس النقاد هذه الأعمال وتوصلوا إلى مدى توافقها مع مبادئ نظرية المحاكاة الأرسطية، ومن الأمثلة عنها قصيدة لأحمد شوقي وصف فيها تمثال أبي الهول، ومنها قصيدة وداد لمحمد العيد آل خليفة.
المحاكاة الأرسطية في قصيدة أحمد شوقي
يقول أحمد شوقي في قصيدة يصف فيها تمثال أبي الهول:[١٠]
أَبا الهَولِ ما أَنتَ في المُعضِلاتِ
- لَقَد ضَلَّتِ السُبلَ فيكَ الفِكَر
تَحَيَّرَتِ البَدوُ ماذا تَكونُ
- وَضَلَّت بِوادي الظُنونِ الحَضَر
فَكُنتَ لَهُم صورَةَ العُنفُوانُ
- وَكُنتَ مِثالَ الحِجى وَالبَصَر
وَسِرُّكَ في حُجبِهِ كُلَّما
- أَطَلَّت عَلَيهِ الظُنونُ اِستَتَر
وَما راعَهُم غَيرُ رَأسِ الرِجالِ
- عَلى هَيكَلٍ مِن ذَواتِ الظُفُر
وَلَو صُوِّروا مِن نَواحي الطِباعِ
- تَوالَوا عَلَيكَ سِباغَ الصُوَر
فَيا رُبَّ وَجهٍ كَصافي النَميرِ
- تَشابَهَ حامِلُهُ وَالنَمِر
أَبا الهَولِ وَيحَكَ لا يُستَقَلُّ
- مَعَ الدَهرِ شَيءٌ وَلا يُحتَقَر
تَهَزَّأتَ دَهراً بِديكِ الصَباحِ
- فَنَقَّرَ عَينَيكَ فيما نَقَر
أَسالَ البَياضَ وَسَلَّ السَوادَ
- وَأَوغَلَ مِنقارُهُ في الحُفَر
فَعُدتَ كَأَنَّكَ ذو المَحبِسَينِ
- قَطيعَ القِيامِ سَليبَ البَصَر
كَأَنَّ الرِمالَ عَلى جانِبَيكَ
- وَبَينَ يَدَيكَ ذُنوبُ البَشَر
كَأَنَّكَ فيها لِواءُ الفَضاءِ
- عَلى الأَرضِ أَو دَيدَبانُ القَدَر
كَأَنَّكَ صاحِبُ رَملٍ يَرى
- خَبايا الغُيوبِ خِلالَ السَطَر
أَبا الهَولِ أَنتَ نَديمُ الزَمانِ
- نَجِيُّ الأَوانِ سَميرُ العُصُر
بَسَطتَ ذِراعَيكَ مِن آدَمٍ
- وَوَلَّيتَ وَجهَكَ شَطرَ الزُمَر
تُطِلُّ عَلى عالَمٍ يَستَهِلُّ
- وَتوفي عَلى عالَمٍ يُحتَضَر
فَعَينٌ إِلى مَن بَدا لِلوُجودِ
- وَأُخرى مُشَيِّعَةٌ مِن غَبَر
فَحَدِّث فَقَد يُهتَدى بِالحَديثِ
- وَخَبِّر فَقَد يُؤتَسى بِالخَبَر
أَلَم تَبلُ فِرعَونَ في عِزِّهِ
- إِلى الشَمسِ مُعتَزِيًا وَالقَمَر
ظَليلَ الحَضارَةِ في الأَوَّلينَ
- رَفيعَ البِناءِ جَليلَ الأَثَر
إنّ أحمد شوقي يصف تمثالًا يُعرف باسم تمثال أبي الهول، وهذا التمثال صنعه نحّات، فالنحات قام بمحاكاة من الدرجة الثانية بأدوات النحت الخاصة، ومن ثم جاء أحمد شوقي وقام بمحاكاة المحاكاة، ووصف تمثال أبي الهول بأدوات الشعر وهي: اللغة والصور والتشابيه، وهذه هي مبادئ المحاكاة الأرسطية.[١]
قصيدة وداد لمحمد عيد آل خليفة
يقول الشاعر يسرد قصة وداد:[١١]
إنْ رمْتَ تُجزى عن يٍد
- بيدِ جزاءً لن يضيع
فاشكرْ كما شكرَتْ ودا
- دُ فضلَ مالكِها الودِيع
إذْ أدبرَ العيشُ المُريـ
- ـحُ وأقبلَ العيشُ المُريع
وابتاعَ سيدُها الفتى
- ما ابتاعَ بالدينِ الفظِيع
وهي قصيدة كتبها الشاعر بعد متابعته لفيلم سينمائي يحكي قصة وداد، وهذه أيضًا محاكاة للمحاكاة، فكاتب الفيلم السينمائي حاكى الواقع من خلال العمل التمثيلي الذي ألّفه، ومن ثم جاء الشاعر وحاكى هذا العمل السينمائي بقصيدة تحكي قصة وداد وتفاصيلها.[١]
علاقة الشعر بالفنون الأخرى
ما مدى اتصال الشعر بالفنون الاخرى حسب مبادئ نظرية المحاكاة؟
إن نظرية المحاكاة وأصولها الفلسفية التي بدأت في اليونان وانتقلت إلى الفلاسفة العرب ومن ثم إلى النقاد العرب، واستمرت إلى يوم الناس هذا، وظهرت بذورها في المذهب الواقعي في الأدب، جعلت من الشعر فنًا قائمًا بحد ذاته، ومن ثم جعلته على صلة وثيقة بالفنون الأخرى كالنحت والرسم والتصوير، وذلك لأن الفن عمومًا يقوم على المحاكاة والمماثلة.[١]
الشعر والرسم
إن المحاكاة عمومًا تقوم على فكرة المماثلة والمشابهة بين العمل الفني والواقع، وإنّ أرسطو اهتم بأدوات المحاكاة في الفن، فإنّ الرسام عندما يرسم لوحة فهو يقوم بمحاكاة للواقع، أو لعالم المُثل في ما يرسمه، ويستخدم لذلك أدوات الرسم من الألوان والريشة واللوحة، ومن ثم يأتي الشعر ويصف هذه اللوحة المرسومة، فتكون المحاكاة من الدرجة الثالثة وأدواتها هي الكلمة والوزن واللحن أحيانًا إذا كان الشعر مغنًى، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة إيوان كسرى للبحتري والتي وصف فيها صورة رسمها رسام للحرب بين الروم والفرس.[١]
الشعر والنحت
إنّ النحت من الفنون التي تقوم على المحاكاة والمماثلة أيضًا، وهي تسبق الشعر بدرجة، وذلك لأنّ النحات يحاكي صورة في مخيلته، أو من عالم المثل، أو من الواقع، مثل النحات الذي نحت تمثال أبي الهول، وبعدها جاء أحمد شوقي لينظم قصيدة يصف فيها تمثال أبي الهول، وبذلك يكون الشعر مرتبطًا بالنحت، فلولا منحوتة أبي الهول لما استطاع أحمد شوقي وصف التمثال بهذه الدقة والبراعة.[١]
المراجع
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ مديونة صليحة، نظرية المحاكاة بين الفلسفة والشعر، صفحة 3-4-5-11. بتصرّف.
- ↑ عصام قصبجي (1996)، أصول النقد العربي القديم، صفحة 8. بتصرّف.
- ^ أ ب ت غسان السيد ووائل بركات (2005)، اتجاهات نقدية حديثة ومعاصرة، صفحة 22. بتصرّف.
- ↑ سفيتان تودوروف (2002)، مفهوم الأدب، صفحة 8. بتصرّف.
- ^ أ ب ت شوقي ضيف (1962)، في النقد الأدبي (الطبعة 6)، القاهرة:دار المعارف ، صفحة 15. بتصرّف.
- ^ أ ب وفاء محمد إبراهيم، علم الجمال قضايا تاريخية ومعاصرة، صفحة 28. بتصرّف.
- ^ أ ب إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، صفحة 222. بتصرّف.
- ^ أ ب ألفت محد كمال عبد العزيز (1984)، نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد، مصر:الهيئة العامة المصرية للكتاب، صفحة 83. بتصرّف.
- ^ أ ب ت إبراهيم الهادي أبو عزوم، نظرية المحاكاة والتخييل بين حازم القرطاجني والسجلماسي، صفحة 99. بتصرّف.
- ↑ "أبا الهول طال عليك العصر"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 29/3/2021.
- ↑ محمد العيد آل خليفة، ديوان محمد العيد آل خليفة، صفحة 31.