وصف حي جميل

كتابة:
وصف حي جميل

مطلع الحي

في مطلع ذلك الحي وفوق سنديانة قديمة تستيقظ العصافير صباحًا لتعزفَ موسيقاها الهادئة، منذرةً ببدء يومٍ جديدٍ مفعمٍ بالنشاط والحيوية، يرافقها صوت الأطفال الذي ينبض بالبراءة النابعة من صدق نواياهم، وصدق كلماتهم البسيطة التي تكاد تفهمها من المرة الأولى، فقد يسقط منها حرف أو حرفان، وفي بعضها قد يجلس حرف مكان الآخر، فكل مكان يرافقهم ينبض بياضًا يشبه بياض قلوبهم.


ذلك المكان الذي يرتدي ثوبه الأخضر المعتق على أرصفته المزينة بتلك الأشجار القديمة التي عاشت مع أبناء الحي سنة تلو الأخرى، وبعض من الزهور الفواحة التي تشاركهم أحزانهم قبل أفراحهم بكل ما فيها من تفاصيل، فكبر الزرع مع طبيب الحي الذي تخرج في جامعة المدينة القديمة، ليصبح طبيبًا مشهورًا، وآخر معلم ينشد كل يوم للوطن أنشودة وقصيدة، ومهندس رسم تصميمات عدة لينهض ببلده ويعمرها.


ذلك الحي الذي بنيت كل لبنة فيه بجهد أبنائه وهمتهم، فكل لبنة تحكي قصة تعب وفرح وألم وتجاوز الكثير من التفاصيل المهمة لأجل الحصول على لقمة العيش نهارًا، لأجل بضع نقود وضعت جانبًا ليوم رمادي ذي لون قاتم يطرق الحياة في داومتها المعتادة، فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ما يشير إلى طبيعة الكون من لحظة الصحوة صباحًا والانطلاق للعمل.


فقد جعل الله النهار الوقت المناسب من أجل البحث عن لقمة العيش، والسعي في الأرض الواسعة؛ ليحصل كل واحد على رزقه المقدر والمكتوب من الله تعالى، أما الليل هو لحظة السكينة بعد عناء يوم طويل يأوي فيه طالب الرزق لفراشه، وقد يجلس بين أبنائه يبادلهم أطراف الحديث، فيغدقهم بحكمته التي اكتسبها من تجارب حياته المفرحة منها والمؤلمة، مثلما نسمع يوم لك وآخر عليك.


بين كل لبنة وأخرى ميثاق حب، يجعل منها أكثر تماسكًا وقوة، وبجانب كل بناء تزرع بعض الفسائل، وتطوقها حجارة صغيرة ليصنع حولها حوض صغير، ثم يرشقه ببعض قطرات الماء قرئت عليها تعويذة الجدة التي تغرق بالدعوات فتعمها الهناء، فالأجداد هم بركة الحياة، هم فسحة الأمل في حياتنا.

زقاق الحي

في ذلك الزقاق من الحي القديم، تقطن خمس عائلات لكل منها حكاية، وكل فرد فيها له قصته الذي يعتقد أنها في جعبة أسراره، لا يعرف أنها حق مشترك في ذاك الزقاق، فإذا دخلت إليه تشعر وكأنه بيت واحد، لا تكاد تميز بين فاصل كل بيت وآخر، إذا اشتكى أحد منهم فإن ذلك يعم على الجميع كالجسد الواحد، يعيشون معظم تفاصيل يومهم معًا ويتشاركونها.

فنجدهم يجتمعون في مقهى الحي صباحًا، فيسمعون من الراديو القديم أخبار الدول المجاورة جميعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها والفنية، ذاك المذياع الذي لا يحتفظ بتردّده طوال الوقت ليقطعهم كل لحظة في ذروة الخبر، وهم يشربون بعض المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة يعدها نادل صغير السن يتحمل سذاجة كل من يزور ذلك المقهى.


على الطاولات المعتقة، يلعبون الشطرنج مرة والطاولة، وفي لحظة الذروة في اللعبة بين فائز وخاسر تضج الأصوات فرحًا تارة، واعتراضًا على النتيجة تارة أخرى، وممكن أن يقود ذلك إلى مشاجرة اعتاد على سماعه أهل الحي كل يوم، وبجانب المقهى محل لبيع الحلوى، يجلس صاحبه الكسول السمين على كرسيه كقطعة حلوى دسمة، لا يشتري منه أهل الحي لجشاعته وغشه وحلواه المكشوفة لذباب الحي، أما الباقي من سكان الزقاق، يعيشون في روتينهم اليومي الممل الذي اعتادوا عليه، ولا يجدون الفكاك منه إلا خارج ذاك الزقاق.


أما لحظة الغروب على ذلك الحي تبدو استثنائية، فمن قمة الجبل تلمح الشمس تختفي وراء المنازل بكل ما فيها من سحر وجمال، وكأنها تغيب على استحياء، بحمرة تعلو خدود حسناء خجولة، تودع مكانها في الأفق الجميل من بساط السماء الواسع، وكأنها لوحة بيد فنان تشكيلي بارع، تأمل فسرح في خياله فأبدع، وبألوان زاهية وريشة رقيقة بدأ يرسم أجمل مشهد، فسبحان الخالق الذي أبدع هذا الكون!

الطبيعة والمرأة في عنصر الجمال سيّان، فإذا أردنا وصف مرأة بخصرها النحيل أو عينيها الخضراوين أو نقاء بياضها فإننا نربطها بالطبيعة، وبذلك نكون قد قدنا بالطبيعة نحو الغزل[١] وبطلّة هذه الحسناء الخجولة يعم السلام على الحي.

بيت جدي والحي القديم

في ذلك الحي القديم، الذي تعمّ فيه البيوت العتيقة ذات الشكل التقليدي، وحولها بضع أشجار معمرة كالتين والزيتون الصنوبر ودالية عنب، يأكل منها أهل الحي كلهم، ولكل بيت بوابة حديدية قديمة، ما إن تفتح إلا وتهب تلك النسائم الرقيقة التي تعبق برائحة التراث القديم، بكل ما فيه من عادات وتقاليد، هناك شيّد جدي منزله الذي جمع فيه كل ذكرياته ونشأ به.


في كل مرة أزوره بها كان لا يمل من حديثه عن فترة شبابه الزاخرة بالأشياء المفرحة والحزينة، اللحظة الذي انتقل فيها من بيته القديم ذي السقف المصمم من القش والطين، والنوافذ الصغيرة والباب الخشبي الذي كان لا يغلق أبدا، بدءًا من سهرة أصحابه تحت شجرة الكينا وتبادلهم الحديث الشيق عمّا صادفهم في يومهم الطويل الشاق، إلى المواقف الطريفة، وصولًا إلى هذه الشجرة التي تجمعهم، كانت الحياة في هذا الحي تنعم بالهدوء ما تكاد تغيب الشمس إلا وقد أوى كل واحد إلى منزله، يجتمعون حول موقد النار، ويتناولون المشروبات الساخنة، ويأكلون البطاطا الحلوة والكستناء، حتى يطغى عليهم شعور النعاس، وتطفأ قناديل البيت.


في ذلك الحي يعيش الجميع في ظروف اقتصادية واحدة، فليس هناك أي فروق تحد من علاقتهم ببعضهم البعض، وتجل بينهم أي حاجز، يلتقون في الشوارع المزدحمة فتشعر وكأنهم أصحاب ملامح واحدة، قلوبهم نقية، لا مصالح تجمعهم فتشتت علاقتهم، يتواصلون مع بعضهم البعض، فإذا غاب أحدهم يفتقدوه ويسألوا عنه، فإذا كان مريضًا زاروه، وأصابه حزن أو فرح شاركوه، يحفظون حق الجار، أمّا نساء الحي لا يملن من تبادل الزيارات فيما بينهن واحتساء القهوة، والبدء بشكواهن المستمرة عن أطفالهم وأزواجهم، وما يرافق حياتهم من هموم.

معالم الحي القديمة

في الحي مدرسة قديمة لا يتجاوز عدد غرفها العشر، منها غرفة المدير، وغرفة معلمين، وصفوف ثمانية، وفي المنتصف ساحة كبيرة جعلها الطلاب ملعبًا لهم ينافسون بعضهم البعض، وبين فوز وخسارة يكمن المرح، في كل صف بضع طلاب، لكل مادة من المواد الدراسية معلم خاص بها، يعرفه أهل الحي جميعهم، وخاصة ذلك المعلم الجشع الذي كان ينتظر الهبات من الطلاب ليحصل كل طالب منهم على علامة تامة.


أما معلم اللغة العربية فقد كان يحبه جميع الطلاب، في كل مرة تبدأ فيه هذه الحصة يعمّ الصف صوت الأناشيد والقصص المشوقة الجميلة التي كانت تغرس حب الوطن ولغته العريقة في نفوس الطلبة، وبين المقطع والكلمة والجملة ترسم الحكايات وتستنتج الحكم والعبر، وفي أقسام الكلمة تبدأ لعبة الإعراب، فلكل معلم منهم مكانة عند طلابه.


أما المسجد القديم، فلبنائه قصة وبين كل لبنة وأخرى حكاية أخرى، لا يكاد يخلو من أهل الحي، يتوسط الحي فيأتيه الناس من كل مكان، فلا يعد هذا المسجد مكان عبادة فقط تؤدى فيه الصلوات الخمس، بل هو دار شورى يجتمع فيه أهل الحي عند أي طارئ يحل بهم، وفي وقت آخر حلقات علم يتعلم فيها الأطفال مهارات عدة كالقراءة والكتابة والحساب، فيعلمهم شيخ الحي قراءة القرآن، وتفسير بعض آياته، وكذلك الأحاديث النبوية السهلة، وفي حصة منفصلة يتعلمون الأرقام قراءة وكتابة، والحساب أيضًا بين جمع وطرح وقسمة، ويتخلل هذه الحلقات لعب وضحك يرفهون بها عن أنفسهم، وهذا لا يمنعهم من العناية بالمسجد وتنظيفه بين وقت وآخر.


بجانب المسجد حديقة عامة صغيرة، يحيط بها شارعان ضيّقان وبعض محلات صغيرة، قام أهل الحي بترتيب الحديقة، فزرعوا أشجار الصنوبرحولها، وبعض أشجار الزينة التي من شأنها أن تعطي الحديقة رونقًا وبهجة، وأحاطوها بسور من الطوب، وفي وسطها وضعوا ألعابًا صغيرة تجلب السرور للأطفال، وبعضًا من المقاعد الخشبية البسيطة، فيمضون فيها أهل الحي بعض الوقت ليروحوا عن أنفسهم ويهربوا من متطلبات العيش التي تحيط بهم، فيلقون كل همومهم بعيدًا عند أول ضحكة من أبنائهم، فتذهب بهم الطبيعة إلى فيض من المشاعر تغنيهم عن تعب الدنيا، فيقول الشاعر ابن سهل الأندلسي:[٢]


الأَرضُ قَد لَبِسَت رِداءً أَخضَرا

وَالطَلُّ يَنثُرُ في رُباها جَوهَرا

هاجَت فَخِلتُ الزَهرَ كافورًا بِها

وَحَسِبتُ فيها التُربَ مِسكًا أَذفَرا

وَكَأَنَّ سَوسَنَها يُصافِحُ وَردَها

ثَغرٌ يُقَبِّلُ مِنهُ خَدّاً أَحمَرا

وَالنَهرُ ما بَينَ الرِياضِ تَخالُهُ

سَيفًا تَعَلَّقَ في نِجادٍ أَخضَرا

المراجع

  1. "الطبيعة في الشعر الأندلسي"، جامعة بابل، اطّلع عليه بتاريخ 14/1/2021. بتصرّف.
  2. "ابن سهل الأندلسي"، الديوان: موسوعة الشعر العربي، اطّلع عليه بتاريخ 14/1/2021. بتصرّف.
3062 مشاهدة
للأعلى للسفل
×