وصف ملامح وجه العجوز الفقير
يمرُّ الزمان على النَّاس ويُعطي لكلٍّ حظوظه منه، فيأخذ الفقير فتات الأغنياء يقتات عليها ريثما تُساعف اللحظات معه لتسوق له ما شاء القدر أن يعيش منه، ولو تأمل النَّاظر في وجه الفقير لما رأى سوى خطوطًا من العجز ذابت مع خطوطٍ من الحزن فكانت كالشيء الواحد الذي اندمج حتى صار أصلًا للمُعدم الفقير، وأيّ أصل هو إذ لا يعدو أن يكون أصلًا للقهر والحزن والجوع والخوف، وكأنَّ ابتلاءات الله للعبد التي أنزلها في كتابه قد اختُصَّت فيه وحده، فكان جملةً من المآسي التي لا يُخطئها النَّاظر.
الرائي في وجه مُعدم الحال لا يعدو أن يكون نظره تأمل لامتحانات الله في العبد فيلهج لسانه قائلًا: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاهم به، وكأنَّه يرى مجذومًا يدعو الله ألا يبتليه بما أصيب ذاك، فيتأمل وجهه ليرى تجاعيد ما شاء لها العمر أن تكون ولكن أراد الحرمان ذلك عنوانًا للأحزان، وأيّ حزن أشدّ على المرء من حرمانه ما يريد، إذ قالوا قديمًا إنَّ الشيء ليس بثمنه إنَّما بقدر الحاجة إليه، تُرى هل تلخّصت حاجته في ذلك اليوم برغيف خبزٍ أم زاد على أحلامه تلك؟
لو أُنعم المرء النّظر في وجه ذلك المسكين لما رأى سوى عينين غائرتين إمَّا من كثرة الهم أو كثرة التفكير، وتُحيط الهالة السوداء حول تلك العينين وتحت الحاجبين وكأنَّها لم تكتف بما أصاب تلك العينين من الجمود بل تُريد أن تزيد على ذلك بالسَّواد، ولكنَّها لو عرفت أنَّه لا يرى سوى السواد سواء كانت أم لم تكون لربّما اكتفت بمرارته التي يتذوقها كل يوم عن أن تزيد عليه في ألمه ذاك.
لو انتهى من النّظر في عينيه وأخذ بناظريه إلى فمه لما رأى سوى فمًا مُتعبًا قد طبقت إحدى الشفتين على الأخرى إطباق من لا يعرف الكلام الطَّريق إليه، وكيف للفقير أن يتحدّث وهو إن قال فلن يُسمع لقوله وإن زاد لأشار النَّاس عليه بالسكوت، فالحديث لا يكون إلا لرنّة الدينار والدّرهم، كيف له أن ينطق بما لا يملك فهو إن تحدّث عن الصّدق قالوا لا يملك إلا أن يصدُق، وإن تحدّث عن التواضع لقالوا إنَّه خُلق في ضعةٍ فكيف له أن يتواضع، وإن أجاد في الحديث عن الحكمة والجمال لقالوا هل دانستهما لتحكي باسمهما فآثر السكوت وبقيت شفتاه على خلقة الله لهما.
إنَّ وصف ملامح الوجه للفقير لا يعدو أن يكون خوضًا في جزةٍ من الصوف ما استطاع أحد أن يخرج منها إلا ازداد حملًا لشعيرات الصوف التي تعلق به دون أن يدري، فلمَّا يغوص في وصف وجه الفقير تعلق به شوائبٌ من الألم التي يُعاينها دون أن يعيشها.
وصف الشكل الخارجي للفقير
إذا تنقّلت عينا الناظر من وجه ذلك العجوز الفقير إلى شكله الخارجي ما رأى سوى مآسي أخرى تُضاف إلى دفتر الوصف الذي اقتناه في ذاكرته، فهو على الحقيقة ليس إلا رجلًا خاض غمار الحياة بيدين خاويتين ثم لا يخرج منها إلا وقد استهلك قواه عن آخرها ثم بات يبحث عن عكاز يستقي منها القوة في آخر أيَّام عمره، إنَّ ثياب الفقير هي التُّرجمان الأوّل عنه فلو سُطّرت مئات من الكتب ترثي حاله وحال ثيابه لما استطاع أن تفي مكان صورة فوتوغرافية توثق ذلك المشهد.
القميص ذو اللون البني أو الرمادي يُفصح عن سبب اختيار العجوز له، إذ غالبًا ما يحتمل اللون البني سنين من الخدمة أكثر من باقي الألوان الأخرى التي اختصَّت بها الطبقة التي أنعم الله عليها بالمال وأسباب الحياة، إذ يختار أولئك ثيابهم بألوان بيضاء فاتحة تبعث النشوة في النُّفوس، وغالبًا ما تكون السنين قد تركت أثرها في البنطال القماشيّ الذي تبدل ألوانه الأولى فأصبح خليطًا من السواد والرَّماديَّة.
أمَّا راحتا اليد فتُعطي انطباعًا عن العمل الذي شاءت الظروف أن يخوضه ذلك العجوز الفقير في زهرة أيَّام عمره، فتجاعيد اليد وخطوطها أكبر من ألّا تُرى، وأمَّا خشونة اليد فهي لا تعدو ختم صدق على القساوة التي عاناها ذلك العجوز في أيام البرد القاسي، عندما كانت تتضخم أصابعه ويتغيَّر لونها من الوردي إلى الأزرق بين الحين والآخر، إنَّ هزال جسده يُخبر عن الليالي التي باتها دون أن يخبر معنى الطَّعم أو تلامس شفتاه قطعة من اللحم الذي ما اعتاد إلا أن يراه في قصعة الأغنياء، فيأكلون قدرًا منها ويرمون أغلبها؛ لمسايرة قواعد الطعام الفاخرة التي لا تنمُّ إلا عن بطرٍ واستهزاءٍ بنعم الله.
غالب الظنّ أنَّه لا يذكر متى كانت آخر مرةٍ قد ذاق االحلويات أو الفواكه الطازجة أو الخضراوات النقيَّة، إذ شحوبة جلده تنمُّ عن الطعمة التي اعتادها، فلربما كانت بضعة من حبات الزيتون التي يُعطيها له النَّاس ظنًّا منهم أنَّهم يُخرجون الصدقات لمستحقيها، ولكنَّهم نسوا أنَّ الصدقات المحببة إلى الله هي من أفضل ما تحبّه النفس لا من أكثر ما تبغضه واعتادت عليه.
الحرمان هو أفضل ما يُمكن أن يُعنون به الشكل الخارجيّ للفقير، ولا يُخفي المشيب يده التي ربتت على شعر العجوز الذي ما استطاع أن يُصلح شعره عن الحلّاق منذ بضعة شهور خلت، وأمَّا تبديل ثيابه فهذا من الرفاهية بمكان، إذ ذلك لا يحصل إلا مرة في السنة بعد عيد الفطر عندما يتصدّق النَّاس عليه ببضع من الثياب القديمة، ثم لا يُعاودون تلك الصدقة في عيد الأضحى؛ لأنَّ عيد الفطر لم ينته إلا منذ بضعة أيام خلت على حدّ تعبيرهم، فيغفو الفقير شاحب القلب في نهاية يومه على وسادته الباردة التي تُدفأ عادة ببضعة من الدموع.
وصف الملامح الدَّاخليَة للفقير
أمَّا النَّفس الدَّاخلية فلن يُدركها إلا من كان لمَّاحًا قادرًا على اكتشاف أغوار النَّفس الإنسانيَّة والغوص في أعماقها وهو ما لا يقدر عليه إلا من خبر أحوال البشر بشكل عامٍّ وحال الفقير بشكلٍ خاص، ولا يكاد يسمو إلى نفس الأغنياء من الغنى النفسيّ والدّاخلي والرّضا الذي يشعر به صاحب المال والسلطة، لقد اعتاد النَّاس أن يروا الفقير مريقًا لماء وجهه حتى ولو لم يُرقه هو إلا أنَّ الحياة شاءت له أن يُراق.
الإنسان هو ابن اللحظة التي يعيشها ويختبرها، وكذلك الفقير هو ابن اللحظة التي يشعر أنَّه يُعاين الحرمان بها، وهو لا يستطيع أن يكون إلا كما قضت له الحياة أن يكون، فيُحاول جاهدًا أن يرضى بالقناعة ويقتات بها عن زينة الدُّنيا ولكن ما تلبث بهرجة النَّاس أن تسلبه تلك القناعة، ويأوي إلى فراشه حزين القلب دامع العين ولو حاول آخرون أن يسلُّونه بقصص الأقدمين الذين اعتادوا أن يذكرونها للفقراء ليرضوا بما هم عليه من أكل النَّاس قديمًا لفتات القمح والتمر.
الحزن لا يلبث أن يكون الصديق الوفي له، والأسى على الحال هو النديم الذي يُشاطره ساعات الليل فيغفو على وسادته يتقاسم الألم مع ذاته الدَّخليَّة، فالإنسان لا يكون إلا كما شاء له القدر أن يكون وهذا عين الأسى، فالقدر إن قضى بأمر لا يستطيع أيّ أحد أن يُغيره فما بال الإنسان إن كتب عليه القدر بالفقر طول الحياة، وربما لم يُعاين أي أحدٍ كسرة الفقير حال تطلّعه على من هم أعلى منه شأنًا وكذلك فلا يكسر لواعج العجوز الفقير سوى رؤيته لأحفاده وأولاده يُعانون مما قضاه القدر فيه.
لقد قال علي بن أبي طالب قديمًا -كما يُنسب له- لو كان الفقر رجلًا لقتلته،[١] تُرى ما الذي علمه ابن أبي طالب من أثر الفقر على النَّفس الإنسانيَّة حتى أراد أن يُقتله وهو الذي استطاع أن يُفرق ما بين الحق والباطل، تُرى هل كان الفقر والباطل رجلين بصفةٍ واحدة، الصّفة التي تكسر النفوس البشريَّة وتروّضها حتى تكون أليفة مع الذّل والمهانة، كيف يشعر الفقير وهو يتطلع إلى قطع الحلوى المُزيَّنة من خلف الزجاج الشَّفاف وهو يتخيَّل أطفاله الصغار ينعمون بلذة الحلوى تلك بين يديه.
لو رأى أحدهم منزل الفقير العجوز لعلم لماذا هو بيت الأحزان ومخبؤه، إذ فيه يُقاسي من ألوان البرد في الشتاء القارص الذي لا يرحم مَن كان ذا عوز، وفيه يُعاني من ألوان الحر الذي تُخلفه الشمس الحارقة في الصيف، فلا تتعد لحظات حتى يشعر بألم نفسه وهو يتأمل ذلك الجدار البارد الذي يستند إليه، وأخيرًا يلهج لسانه ببضع من الدعوات يسأل الله فيها أن يكون حاله في الآخرة أفضل من هذه الحال التي اعتاده النَّاس ملازمًا لها في الحياة الدنيا.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين، أرشيف ملتقى أهل الحديث، صفحة 101. بتصرّف.