وصف رحلة إلى مدينة القيروان

كتابة:
وصف رحلة إلى مدينة القيروان

رحلتي إلى القيروان سيدة البهاء

إن كنتُ أنسى فلا يُمكن أن يغيب عن ناظري ذلك اليوم الذي زرت فيه مدينة القيروان باذخة الجمال، إنني وكأيّ شغوف بالمدن التّونسيّة كنتُ أحلم بأن أزورها وأتعرف على تفاصيل حضارتها العريقة، لا سيما أن أصدقائي ممن زارها سابقًا كان يتحدث عنها بكل إعجاب، حتى أقامت مدرستنا رحلة إلى تلك المدينة الخلابة، فحزمتُ حقائبي وجهزت بعض المعدات لرحلة قد تطول، وتهيأتُ مع أصدقائي في مجموعاتٍ تقاسمَ كلّ منّا فيها جمع المعلومات عن تلك المنطقة العريقة، حتى تكتمل رحلتنا بإدراك الأبعاد الجمالية والتاريخية والثقافية لمدينة القيروان.


قال لي صديقي إنّ عليّ جمع معلومات حول معالم القيروان وأصل تسميتها، فبحثتُ في كتب التاريخ عن معالمها فقرأت الكثير عن مؤسّسها "عقبة بن نافع" وإنجازاته العظيمة في التاريخ الإسلامي، وأنّها اشتُهرت "برابعةِ الثلاث" بعد مكة والمدينة والقدس، أمّا معنى اسمها وأصوله، فوجدت أنّ "قيروان" يعودُ إلى كلمة "كاروان" الفارسية، وتعني الرّتل العسكري، وكانوا يقصدون بها مكان استراحة القافلة أو جلوس الجيش، ولكن قبل البدء بالرحلة بقي على صديقي أن يبحث عن تاريخ القيروان وحضارتها![١]

ماذا يروي مسجدها الشهير عن أمجاد المسلمين؟

انطلقت رحلتنا في الثامنة صباحًا، وحين وصلنا أدهشتني تلك البساطة التي بُنيَت بها البيوت، إذ أكسبت المدينة شيئًا من التميّز والخصوصية، كما أن شكلها الذي يتميّز بالقُبب والمساحات الداخلية للعمارة جعل منها معلَمًا مَهيبًا للزائرين، كان المسجدُ يحكي قصةً طويلة عن انتصارات وهمّة عقبة بن نافع عبر الأزمان التي مضت، وخير دليلٍ على ذلك أنه يُسمّى باسمهِ، وحين تمرُّ الشمسُ بشعاعها على ذلك اللون الترابيّ للجدرانِ تزدادُ روعته ويعظمُ ألقُه، تعجّبَ صديقي حين رأى المدينة من بعيد: كم هو عظيم ما قدّمهُ فتحُ عقبة لهذه المدينة حتى أصبحَ هذا المسجد رمزًا للبهجة والانشراح.


يعدّ المنبر تحفة فنية، إذ يعودُ بالمتأمّل إلى القرنِ الثالث للهجرة، ومقصورة المسجد أيضًا بما فيها من مظهرٍ أثري ما زالت تحتفظ بشكلها المزخرفِ القديم منذ القرن الخامس الهجري، ومما يلفتُ الأنظار في عمارة المسجد الخارجية أنّ جدرانه سميكةٌ ضخمة، ومن الواضحِ أنها قد شُدَّتْ واجتُهِدَ على عمارتها بأيدٍ خبيرة بقصد تدعيمِ المسجد وزيادة قوّةِ عُمرانه.


يعدّ هذا المسجد كما وصفه أستاذنا تراثًا عالميًّا يعلو فيه صوت الأذانِ باسم الله تعالى، ويتّصفُ بالمسحة الجمالية الإنسانية التي تُضفي على مكوّناته معاني السموّ بالرّوح إلى الأعلى، وبما أنّ بناءَه كان مُشيَّدًا على أيدي حضاراتٍ عديدةٍ ومتتالية فإنّه أصبحَ مثلَ مرآةٍ تعكسُ التاريخ الإفريقيّ على امتدادِ ثلاثةِ آلاف سنةٍ أو أكثر، وهو المسجد الذي يسعى الخلفاء والأمراءُ إلى ترميمه وتحسين مظهرهِ وزخرفتهِ حالَ استلامهم الحكم، وكأنّه جاذبٌ لكلّ معنى من معاني الجمال، ومرآة تعكسُ تجلّياتِ الحضارة الإسلامية على مرّ العصور.


عمارتُه المغربية تمثّلُ الوجه الأبهى للعمارةِ الأندلسية والعنصر المُلازم لها في كل الأحوال، كما أن النمط الذي بُني به أصبح بمثابة المثل الذي يُحتذى في بناءِ المساجد وأماكن العبادةِ في مدينة المغرب، وفي مدينة تونس على وجه الخصوص، وفي رحاب القيروان التي تبعدُ مسافة 165 كم عن العاصمة تونس يستحضرُ الزائرُ الوجه الموشّى بالمسرّةِ للإسلامِ الحقيقيّ الذي كان شامخًا حين كان هذا المسجد في بدايات تكوينه بالنسبة لي ولأصدقائي، إنّهُ أكثرُ مكانٍ أشعرُ فيه بالراحة والاطمئنان حتى الآن.

القلب يهتف بذكرى الفاتحين

كان جمعٌ من الأساتذة قربنا يتناقشون حول شكل عمرانها الفريد، فقلتُ مخاطبًا أستاذ التاريخ: كيف بنيَت مدينة القيروان؟ فقال: القيروان فتحٌ كبيرٌ للمسلمين، وهي مدينة متكاملة تضمّ البيوتَ والشوارع والمساجد والمساكن، فيمكن للإنسان أن يتعرف على حضارة كاملة من خلال مدينة القيروان، وقد بناها القائدُ عقبة بن نافع عام 50 للهجري لتكونَ مكانَ استقرارٍ للمسلمين، وتكونَ عامرة بالعلم والصلاح، فكانت أوّل مدينةٍ إسلامية ونقطة انطلاق الحضارة الإسلامية في منطقة المغرب العربي، لتؤدّي معنى الجهاد والدعوة في آن واحد.


قال صديقي: نعم يا أستاذي، لقد تساءلت عن مكانتها ومكانة الدول التي جاورَتها قبل القدوم إلى هنا، وبحثت في الكتب لأعرف ما هي الأندلس أيضًا؟ فقرأتُ أن القيروان كانت بمثابة عاصمة الإسلام الأولى لإفريقيا والأندلس، كما تعدّ مركزًا حربيًّا للجيوش الإسلامية المنطلقة في طريقها إلى الفتوح، بالإضافة إلى أنها كانت نقطة ارتكازٍ لانتشار اللغة العربية في الأصقاع، وقد بقي ذلك على مدى أربعة قرون!


بعد أن مشينا وجلسنا قليلًا في الداخل قال صديقٌ معنا في المجموعة: لا شك أنّ هذه المدينة بأهمّيتها ومركزيّتها لم تكن تؤدّي دورًا محلّيًّا وحسب، بل أثرتْ في بقية الدول المجاورة، هل هذا صحيح؟ قال أستاذ التاريخ: بالتأكيد، كان لها الدور الأساسي في قرون الإسلام الأولى، فهي العاصمة السياسية للمغرب، ونقطة ارتكازِ الفتح الإسلامي فيه حتى إقامة الدولة الأموية في دمشق، بعد ذلك تأسست الدولة العباسية في بغداد، وحين أفلَتْ شمسها ظهرتْ الدول المعارضة لها في المغرب العربي، فأنشأت عدة دول تُناوِئُ بها الحكم العباسي في العراق، فكان منها دولة الأمويين في الأندلس، والدولة الرستمية في الجزائر، والدولة الإدريسية العلوية في بلاد المغرب الأقصى.

بيت الحكمة ينير دروب القيروان

بعد أن تعرّفنا على كل ما يهمّنا في مسجدِ عقبة بن نافع وجَّهنا مُشرفُ الرحلةِ إلى الاستراحة في المساحةِ التي تغطيها السماءُ في الخارج، همَّ أستاذُ اللغة العربية بالسؤال: هل قرأ أحدٌ منكم عن بيت الحكمة في القيروان، مَن يستطيع أن يحدّثنا عنه؟ فقال صديقي الذي قرأ كثيرًا عن هذه المدن قبل الرحلة: أنا أخبرك يا أستاذي، إنها أوّل مكتبةٍ علميّةٍ أُنشئتْ في إفريقيا، وكانت تضمُّ كتبًا كثيرةً تعتني بالعلوم العقلية كالفلسفة وعلم الكلام، كما تضمُّ الكتب النفيسة والأمّهات التي تحتوي على العلوم الكلّيّة، قال أستاذ اللغة العربية: صدقت، وقد أنشأها إبراهيم الثاني الأغلبي في رقادة، تقليدًا لبيت الحكمة التي أنشأها هارون الرشيد في بغداد، وقد كانت خير محاكاة، فهل هناك أجمل من كثرةِ المكتبات وكثرةِ الكتب وإمكانية القراءة والاطلاع والتعرف على علوم البعيد والقريب والغريب؟


قال صديقي: لقد قرأت أيضًا عن أعلامها، لا سيما الأديب والناقد الكبير "ابن رشيق القيرواني" مؤلف كتاب العمدة والشهير بفن نقد الشعر، فقد وضع فيه محاسن الشعر وآدابه وقواعد نقدهِ، ويحتوي على الخلاصة التي خلُص إليها النقاد الذين سبقوا ابن رشيق في هذا الفن، قال الأستاذ: بوركت. وأضيفُ أن المهتمّين بالتاريخ يذكرونَ المعز بن باديس الصنهاجيّ أيضًا، لكثرة ما بلغته الحضارة القيروانية في عهد الصنهاجيين من علوٍّ ورفعة.


ثمَّ أردفَ قائلًا: هل تعلم أن إبراهيم الأغلبي قدِمَ بأعداد كبيرة من العلماء في شتى العلوم مثل الفلك والطب والهندسة والرياضيات من المشارقِ والمغارب ثمّ زوَّدهم بالأدوات التي تلزمهم للأبحاث العلمية لكي يقدّموا أفضل ما لديهم من نتائج؟ وكان يبعث في كل عامٍ بعثةً إلى العراق لكي يحافظ على مكانته عند الخليفة العباسيّ ويجدّد ولاءَهُ لتلك الخلافة، ويقتني الجديد من الكتب النفيسة في بغداد في مكتبة بيت الحكمة الأصلية، حتى يجمع ما لم يجمعه غيره من في بلاد المغرب من كتب وعلماء، إلى أن استطاعَ في مدةٍ قصيرة أن يؤسس لبيت الحكمة في رقادة بشكل مركزيّ يشبه نظيرتها في بغداد إلى حدّ كبير، وبقيت كذلك إلى حين وفاته.


قال مشرف المجموعة لأستاذنا: وهل حافظَ عليها الناسُ بعد ذلك؟ قال الأستاذ: ما إن توفّي إبراهيم الأغلبي إلا وقعت المكتبة في يد الفاطميين وأصبحت تحت سيطرتهم، قال صديقي: ما أجمل أن تكون المكتبة معهدًا علميًّا للبحث العلمي، وما أجمل أن يشرف على هذه الأبحاث عارفٌ بالعلوم يرشدُ الطالب حيث يريدُ الإرشاد، هَلَّا حدّثتنا يا أستاذي عن الجامعات في القيروان؟


قال الأستاذ بعد تنهيدةٍ طويلة: كانت القيروان أوّل المراكز العلمية في بلاد المغرب، حيث يقصدها الطلاب من جميع الأنحاء المجاورة، كما أنها تقدّمت على قرطبة في الأندلس وكذلك على فاس في المغرب الأقصى لتكون أنموذجًا للعلم والعلماء، أما مسجد عقبة بن نافع فلم يكن مسجدًا وحسب، بل كان نقطة ارتكاز لحلقات العلم والتدريس، كما أن الجامعات التي أنشئت في هذا الميدان كانت تسمى "دور الحكمة"، فيأتي إليها من يشدّهُ حبُّ العلم إلى المجد والرفعة، كما يدرّس فيها أكابر العلماء والفقهاء والدعاة من جميع البلاد في المشرق والمغرب، وهذا ما رفعَ مكانة اللغة العربية والإقبال على البحث في علوم القرآن الكريم، إذ إنّ اللغة العربية هي المفتاح الأول لفهم كتاب الله تعالى وتدبّر آياته.


تجمّع الأصدقاء حول بعضهم البعض، فقال واحد منهم بعد تأمّلٍ وشوق: أرى يا أستاذي أن المسلمين كانوا في هذه الديار في أبهى أزمانهم وأعرقها، وما ينبغي علينا اليوم هو إعادة تلك الأمجاد إلى ميدانها بالعلم والثقافة والصبر، فالدور الكبير الذي قامت به هذه المدينة من نشر تعاليم الدين وتدريس العلوم يكفي لنتخذها مرجعًا يحثّنا للإقبالِ على المجد من أبهى أطرافه، قال الأستاذ: صدقت يا بنيّ وهُديتَ إلى الصواب، وما كانَ همّ الفاتحين لهذا المكان إلا إيصال الهداية إلى قلوب الناس، وها هي قد وصلتْ إلى قلوبنا ولو بعدَ حين.[٢]



لقراءة المزيد من وصف الرّحلات، اخترنا لك هذا المقال: موضوع تعبير عن رحلة قمت بها.

المراجع

  1. أبو علي أحمد بو عمر بن روستا، الأصول النفيسة، صفحة 347. بتصرّف.
  2. أحمد بن أبي يعقوب بن وديع اليعقوبي، كتاب البلدان، صفحة 13. بتصرّف.
2938 مشاهدة
للأعلى للسفل
×